دراساتصحيفة البعث

مبدأ ترامب للشرق الأوسط

 

د. معن منيف سليمان

ينتهج الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” استراتيجية جديدة تجاه الشرق الأوسط تقوم على مبدأ تحولات لافتة في قضايا رئيسية مثل صفقة القرن، والأزمة السورية، وحرب اليمن، والملف الإيراني. فالتخلي عن التعهدات الأمريكية السابقة في الشأن الفلسطيني ودعم “إسرائيل” بنحو مطلق، أشعل بشكل متعمد نزاع الشرق الأوسط، ما جعل من هذه الصفقة غير مطروحة حالياً. وبعد أن كانت الاستراتيجية الأمريكية تعتمد على وجود عسكري مستمر في سورية باتت الآن تعتمد على إعادة سحب القوات الأمريكية منها. وفي اليمن، فإن الإدارة الأمريكية تذهب باتجاه التأكيد على أنه لا انتصار عسكري في اليمن، والحل يمكن في التسوية السياسية، وأن واشنطن ستحاول الحفاظ على مصلحتها الأساسية المرتبطة بعدم سيطرة الحوثيين على باب المندب. فيما سيبقى التركيز على إيران محور استراتيجية الأمن القومي، التي تقوم على تغيير النظام الإيراني، من خلال العقوبات والضغط من الخارج وتشجيع أعمال المعارضة الداخلية. هذه الاستراتيجية جعلت الحلفاء الأوروبيين يشكّون بقدرة الرئيس “ترامب” في قيادة المعسكر الغربي.

بقراره الاعتراف بالقدس من جانب واحد عاصمة “إسرائيلية” خاطر الرئيس الأمريكي ترامب بتصعيد خطير للأوضاع. فبعد هذا الإعلان تأثرت مكانة أمريكا في أجزاء واسعة من الوطن العربي، وشعر الفلسطينيون، على وجه الخصوص، بأنهم تعرضوا لإساءة بالغة. وأصبحوا يرفضون الوساطة الأمريكية في عملية السلام التي يريد الرئيس “ترامب” تحريكها، حيث بدت عالقة أكثر من أي وقت مضى، لاعتبار الجانب الفلسطيني، واشنطن، وسيط غير محايد.

العالم بأسره تقريباً حذّر الرئيس الأمريكي من هذه الخطوة: الفلسطينيون والدول العربية والإسلامية في كل الأحوال ـ وأيضاً ألمانيا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وروسيا والبابا. لكن “ترامب” صمّ أذنيه، فبغضّ النظر عن جميع التحذيرات والتخوفات من انفجار جديد للعنف في الشرق الأوسط، أوفى بتعهده الانتخابي، واعترف من جانبٍ واحدٍ بالقدس عاصمة لـ “إسرائيل” بما في ذلك نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى المدينة المقدّسة بالنسبة إلى اليهود والمسيحيين والمسلمين على حدٍّ سواء.

إن الكثير من العرب والمسلمين حتى خارج الأراضي الفلسطينية قد شعروا بهذا الأمر كإهانة قوية وهزيمة سياسية بحقهم، فكل شيء له علاقة بالقدس يؤجّج منذ مدّة درجة غليان المشاعر السياسية والدينية. فالولايات المتحدة لم تضع نفسها فقط بشكل واضح ودون أية حاجة على المستوى السياسي مع قطيعة، مع إجماع الدبلوماسية الدولية في الشرق الأوسط  الذي استمر عقوداً من الزمن، ووجب بموجبه تحديد وضع القدس في إطار تسوية سلمية نهائية، والفلسطينيون يطالبون على كل حال بالشطر الشرقي للقدس كعاصمة لدولة مستقلة مستقبلية. الولايات المتحدة الأمريكية اعترفت من خلال قرار الرئيس “ترامب” عملياً أيضاً بأنها البلد الوحيد في العالم الذي اعترف بضمّ القدس الشرقية لاحقاً الذي يُعدّ بوضوح إلى حدّ الآن خرقاً للقانون الدولي.

الرئيس “ترامب” يعمل بهذا على إيجاد أمر واقع، ويعرض أمام أعين الفلسطينيين والعرب والمسلمين ضعفهم وعجزهم الذاتي. مظاهرات غاضبة وتفجر للعنف وإرهاب واحتجاجات وقطع الاتصالات السياسية أو العلاقات الدبلوماسية: الكثير من ردود الفعل الشديدة تهدّد بحصولها والرئيس الأمريكي يتحمّل بقراره الخطير للغاية كامل المسؤولية، ولا يمكن تعليل القرار سياسياً بأي شيء. الرئيس “ترامب” يشعل بذلك عن قصد وبشكل خطير نزاع الشرق الأوسط.

والآن بات أنه لا وجود لتلك الصفقة حالياً، والطرح الأمريكي بشأنها أصبح من الماضي، لأن الرئيس “دونالد ترامب” أدرك أنها صفقة من الصعب تنفيذها، بعد رفضها من الأطراف العربية والقيادة الفلسطينية. إن الهدف الأساسي لما سماه الرئيس “ترامب” بـ”صفقة القرن”، يستهدف التعدّي على الحقوق العربية سياسياً وجغرافياً لصالح أطراف غير عربية، على رأسها “إسرائيل”، بالتالي فإنه لا وجود للصفقة على مستوى حلّ الصراع العربي – الإسرائيلي، في وقت يتناسى فيه الرئيس “ترامب” ما طرحه من قبل عن عمد.

إن ردّة الفعل العربية التي رفضت هذه الصفقة من دون تقديم حلول بديلة لدعم القضية الفلسطينية، كان محفزاً للرئيس “ترامب” لاتخاذ المزيد من المواقف المتشدّدة بجانب “إسرائيل”، وعبر عن ذلك من خلال انسحابه من تمويل “الأونروا”، ولا توجد مواقف تفاوضية من قبل واشنطن مع القيادة الفلسطينية حالياً.

وفي الشرق الأوسط أيضاً، كان هناك مواصلة لإدارة الرئيس “ترامب”، في العمل داخل الأراضي السورية، والعراقية، حيث كثفت، على حدّ تعبيرها، الحرب على تنظيم “داعش” الإرهابي، حتى تحقيق النصر، وبعدما مالت الكفة لصالح الجيش العربي السوري وحلفائه، تحاول واشنطن، اعتماد إستراتيجية تقوم على وجود عسكري مستمر في سورية لتفادي عودة الإرهابيين، وفي الوقت نفسه، تمكنها من التصدّي لطهران، والتوصّل إلى حلّ سياسي ينهي الأزمة الراهنة.

والآن وبعد هزيمة تنظيم “داعش” بنحو كامل في سورية، نرى أن الدبلوماسية الأمريكية غابت عن تحديد مستقبل المنطقة. كان الرئيس “ترامب” عازماً على التخفيف من أهمّية التوقّعات والحدّ من الالتزام الأمريكي. فأعلن قائلاً: “ليس بإمكان أيّ دم أمريكي أو أيّ ثروة أن تحافظ على سلام وأمن دائمين في الشرق الأوسط، فهذا مكان مضطرب”. وقد وعد الرئيس “ترامب” بأن “يحاول تحسينه”، لكنّه كرّر قائلاً: “إنّه مكان مضطرب”.

لكن سيتعيّن على أصدقاء الولايات المتحدة الإقليميين أن “يحرصوا على ألا تستفيد إيران من القضاء على داعش”. بالفعل، وضّح الرئيس “ترامب” قائلاً: “طلبنا من شركائنا أن يتحمّلوا مسؤولية أكبر في فرض الأمن في منطقتهم”. لقد انتهت مرحلة استلام الولايات المتحدة مهمّة إضعاف السيطرة التي اكتسبتها إيران في الشرق الأوسط. وقد أعلن الرئيس “ترامب” الآن فعلياً أنّه سيدير الدفّة من الخلف في الشرق الأوسط، على غرار غريمه الرئيس السابق “باراك أوباما”.

غير أنّ الرئيس “ترامب” سبق أن وضع استراتيجية للشرق الأوسط. فسيدعم من خلالها شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ويبيعهم كلّ ما أمكنهم شراءه من سلاح. لكن عبء التعامل مع هذا المكان المضطرب سيقع على كاهلهم وليس كاهله. اسمعوا جيّداً: “مصير المنطقة في يد شعبها”، وليس في يد ترامب.

أما في الشأن اليمني، فاليمن هو أول القضايا التي تأثرت بانتصار الديمقراطيين في مجلس النواب. فالتأييد بين الأمريكيين لأي دور لواشنطن في الحرب هو في أدنى مستوياته، والرئيس “ترامب” و”مايك بومبيو” و”جيمس ماتيس” لا يمكنهم الاستمرار بتجاهل ومماطلة الكونغرس في هذا الملف. المتوقع أن يدفع مجلس النواب بتشريعات لوقف الدور الأمريكي العسكري الداعم للتحالف في الحرب، ومحاولة الإدارة الدفع بالمحادثات السياسية لتنفيس هذا الضغط.

وقد واجه الموقف الأمريكي من الحرب في اليمن تغيّرات مرتقبة، على أثر قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، لأن حالة الغضب التي تنتاب الرأي العام الأميركي والتي يغذيها بشكل أساسي الإعلام المعارض لسياسة الرئيس “ترامب” وتركيزها على الجوانب الإنسانية في اليمن وربطها بالحادث الأخير قد تكون دافعاً إلى تخلّي الإدارة الأميركية عن سياستها الداعمة للتحالف العربي، لكن ذلك سيتم تدريجياً وفقاً لدرجة الشدّ والجذب بين الرئيس الأمريكي والرأي العام الداخلي.

وعلى الرغم من أن الرئيس “ترامب” لا يتوانى عن مساعدة تابعه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على التخبّط في مأزق اليمن، مقدّماً له كلّ الأسلحة والأجهزة الاستخباراتية التي قد يحتاج إليها متجاهلاً المأساة الإنسانية هناك. إلا أن الإدارة الأمريكية تذهب باتجاه التأكيد على أنه لا انتصار عسكري في اليمن، والحل يمكن في التسوية السياسية، وأن واشنطن ستحاول الحفاظ على مصلحتها الأساسية المرتبطة بعدم سيطرة الحوثيين على باب المندب.

وأما في الملف الإيراني الذي يشكّل أولوية للرئيس “ترامب”، حيث دعا لتشديد العقوبات عليها، وقد بدأت فعلياً، ولا يخفي الرئيس “ترامب” استراتيجيته في تغيير النظام الإيراني، من خلال العقوبات والضغط من الخارج وتشجيع أعمال المعارضة الداخلية. وأن الولايات المتحدة ستواصل العمل من خلال “الدبلوماسية” مع حلفائها من أجل تحجيم دور إيران في المنطقة، حتى بعد انسحاب الجنود الأمريكيين من البلاد. وأن تواصل واشنطن العمل على أن تحتفظ “إسرائيل” بالقدرات العسكرية التي تمكّنها من الدفاع عن نفسها.

في الوقت الراهن، يبدو أن الرئيس “ترامب” مهووس بتخريب الاتفاق النووي، الأمر الذي من شأنه أن يضعف القيود المفروضة على قدرة إيران على تطوير قدراتها النووية، دون أن يفعل أي شيء لاحتواء النفوذ الإيراني في المنطقة.

وخلال المفاوضات النووية التي جرت بين إيران والغرب اتضح أن أمريكا تريد التطرق لمواضيع أخرى مثل قدرات إيران الصاروخية من أجل احتواء إيران وجعلها تحت السيطرة وضمّها إلى “القرية العالمية”، لكن قد ثبت للجميع بأن إيران أفشلت المساعي الأمريكية، حيث لم تستطع أمريكا أن تفرض على إيران اتفاقاً يحدّ من قدراتها، ولذلك يعمد الأمريكيون الآن إلى رفع تكلفة تمسك إيران بمبادئها، وهذا ما يفسّر سعي الأمريكيين إلى إشاعة الفوضى في المنطقة بشكل طويل الأمد، وخلق صراعات طائفية تستنزف قدرات كل دول المنطقة.

إن الإخفاقات الدبلوماسية للرئيس “ترامب” الذي يعتمد استراتيجية تنتهج مبدأ الانسحاب من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، والتخبط في ملفات سورية واليمن وإيران، والتخلي عن التعهدات الأمريكية السابقة في الشأن الفلسطيني، ودعم “إسرائيل” بنحو مطلق، كل ذلك أثار تخوف الدول الأوروبية من سياسيات الرئيس “ترامب” في الشرق الأوسط، وجعلت الحلفاء الأوروبيين يتساءلون عن جدوى إدارة الرئيس “ترامب” للمعسكر الغربي، كونه شخص ذي معرفة ضيقة جداً بالمنطقة.