دراساتصحيفة البعث

الحقيقة المرّة خلف أوهام التغيير من الخارج

د. مازن المغربي

وقع الكثيرون في فخ وهم التغيير الذي ينظّم من الخارج، جرفهم تيار وعود بذلت بسخاء، لكن من يتابع التطورات التي شهدتها بلاد انجرت إلى مثل هذا النوع من التغيير سيصدم بالنتائج، تعتبر أوكرانيا مثالاً صارخاً على نجاح المؤامرات التي تنظّمها جمهورية ألمانيا الاتحادية بحجة الترويج للديمقراطية، سنوات خمس مرت على الانقلاب ضد الرئيس المنتخب الذي خططت له برلين، وكانت النتائج كارثية، تم تحويل أوكرانيا إلى بلد مصدر للمنتجات الأولية، تم تفكيك قطاعها الصناعي، وانهار نظام الخدمات الصحية،  وصارت بفضل الدعم الألماني أفقر دول أوروبا، تم استنزاف مواردها البشرية، وجرى تحويلها إلى دولة هامشية وفق ما ورد في دراسة لموقع “فورين أفيز جرماني” الناطق باللغة الألمانية، نشرت في 22 شباط 2019.

مرت خمس سنوات على انقلاب كييف الموالي للغرب الذي فرضته برلين  في 22 شباط 2014، ومازال التدهور الاقتصادي والاجتماعي في البلاد  مستمراً، انهار الاقتصاد، وتراجع التصدير والاستيراد بين 2013-2017 إلى قرابة الثلث، كما تراجعت الصناعة إلى حد تفكيك مصانع البلاد، وللمرة الأولى منذ استقلال أوكرانيا صارت منتجات القطاع الزراعي هي أهم صادرات البلاد، وبالتالي تم  تثبيت واقع أن أوكرانيا دولة على هامش  الاتحاد الأوروبي، ومرتبطة به، وخلال هذه الفترة صارت أوكرانيا أفقر  بلد في أوروبا، وطال الانهيار قطاع الصحة، وشهدت البلاد انتعاش اليمين المتطرف، ويقارن الخبراء وضع الميليشيات اليمينية المتطرفة بما هو قائم في أمريكا اللاتينية، وفي أفريقيا، وتقول مصادر رسمية إن هناك مليون شخص يغادرون البلاد سنوياً بسبب التطورات الكارثية.

الانقلاب

في الثاني والعشرين من شباط 2014 قرر المجلس الأعلى في البرلمان الأوكراني عزل الرئيس المنتخب فيكتور يانوغوفيتش، وهو أمر حرضت عليه الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي منذ زمن طويل، الأمر الذي مهّد الطريق أمام القوى اليمينية للوصول إلى السلطة في العاصمة الأوكرانية.

وكان وزير الخارجية الألماني وقتها فرانك فالتر شتاينماير، من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، توسط في اليوم السابق لاتفاق بين يانوغوفيتش ومعارضيه الموالين للغرب، لكن الاتفاق سقط في اليوم ذاته بعد أن هدد متظاهرون مسلّحون بمهاجمة القصر الرئاسي،  غادر يانوغوفيتش البلاد مساء 21 شباط بعد اجتياح المتظاهرين الحي الحكومي والبرلمان، وبعد ذلك بيوم استولى مسلّحون على القصر الرئاسي، وكان من ضمنهم أعضاء في منظمة فاشية لها خبرة تمتد لخمس وعشرين سنة في مختلف الصراعات التي نشبت خلال الفترة التالية للحقبة السوفييتية، وقام ليبراليون ومحافظون وفاشيون بتشكيل تحالف جديد، وانتخبوا رئيساً انتقالياً، أما الحزب الشيوعي القوي وثيق الصلة بروسيا الذي مثّل الكتلة النيابية الثانية في البرلمان فقد تعرّض للضغط، واضطر في شهر أيار 2014 إلى حل كتلته النيابية، ليتم لاحقاً حظره.

حكم الطغمة المالية المستمر

ظل أفراد الطغمة المالية العامل الحاسم والمقرر في ميدان السياسة في أوكرانيا بعد الانقلاب الذي احتفت به برلين، فبعد الانقلاب بفترة قصيرة التقى وزير الخارجية شتاينماير شخصياً مع أفراد من الطغمة المالية على الرغم من أنهم لم يشغلوا مناصب رسمية، ووفق رأي خبراء خزان الفكر “كارنيجي أوروبا”، اتجه الممسكون الجدد بالسلطة في كييف إلى عقد تحالف تكتيكي مع نظام الطغمة المالية تحت قيادة الرئيس بيترو بوروشينكو، وهو بدوره من كبار الأثرياء، ولا يبدو أن الأمور ستتغير بعد الانتخابات القادمة، حيث أشارت استطلاعات الرأي إلى تقدم فولوديمير سيلينسكي، وهو، وفق رأي مؤسسة هينريش بول المقربة من حزب الخضر  الألماني، وثيق الصلة بايغور كلوموجسكي أحد أفراد طغمة كبار الأثرياء.

انهيار الاقتصاد

على الصعيد الاقتصادي نفذت أوكرانيا في أعقاب الانقلاب على مدى سنوات إصلاحات نيوليبرالية تحت قيادة الرئيس بوروشينكو وكتلته الانتخابية المعتمدة على حزب شاركت مؤسسة كونراد أديناور المقربة من الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني في تشكيله، الأمر الذي كانت له تداعيات كارثية، فوفق مصادر صندوق النقد الدولي صارت أوكرانيا منذ عام 2018 أفقر دول أوروبا خلف جارتها جمهورية مولدوفا التي احتلت أسفل القائمة على مدى سنوات، ووفق مصادر البنك الدولي ارتفعت نسبة سكان أوكرانيا الذين يعيشون تحت خط الفقر الرسمي من 15% عام 2014 إلى 25% عام 2018.

إن المسار الاقتصادي الأوكراني يؤدي إلى بؤس واسع النطاق، وفق رأي معهد البحوث الاقتصادية والاستشارات السياسية، وهو من أبرز المعاهد الاقتصادية في البلاد، وقد تم تأسيس هذا المعهد عام 1999 بمشاركة من جمهورية ألمانيا الاتحادية التي موّلته بالكامل طوال سنين، وبالإضافة إلى المسار الاقتصادي الليبرالي، فإن اتفاقية التجارة الحرة، والاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي، والحرب الأهلية في دونباس، والمواجهة السياسية مع روسيا، كان لها تأثير عميق على الاقتصاد الأوكراني، حيث اضطرت العديد من المؤسسات الصناعية إلى إغلاق أبوابها، ولاتزال عملية تفكيك صناعة البلاد تسير قدماً.

ولم تقتصر تداعيات هذا المسار على تراجع صادرات أوكرانيا بشكل مأساوي بين عامي 2013 و 2017، حيث تراجعت الصادرات بنسبة 31%، في حين تراجع الاستيراد بنسبة 35%، وكان القطاع الصناعي هو المتضرر الأول، حيث تراجع حجم صادرات الحديد المبروم من 21.2 مليار $ إلى 12.7 مليار$، كما تراجع تصدير الآلات المصنعة إلى النصف، وانخفض من 10.1 مليار$ إلى 4.9 مليار$، وللمرة الأولى في تاريخ أوكرانيا احتلت المنتجات الزراعية المركز الأول في صادرات البلاد، وهكذا تحولت أوكرانيا إلى دولة هامشية حالها مثل حال دول جنوب الصحراء في أفريقيا، ودول أمريكا اللاتينية.

وترافق تفكيك صناعة البلاد بتغيير وضع التجارة الخارجية، فحتى عام 2013 كانت الصادرات الأوكرانية تتوزع بالتساوي تقريباً بين الاتحاد الأوروبي والبلدان التي نشأت عقب الحقبة السوفييتية، وبلدان الجنوب بشكل عام، ولكن بعد انقلاب شباط 2014 تراجع التصدير إلى الشرق وإلى الجنوب بشكل كبير، وصار الاتحاد الأوروبي في موقع المهيمن على التجارة الخارجية الأوكرانية، لكن البضائع التي يتم تصريفها في الاتحاد الأوروبي تختلف بشكل جذري عن البضائع التي كانت أوكرانيا تصدرها شرقاً وجنوباً، حيث تتكون بشكل رئيسي من منتجات غير مصنعة أو مصنعة جزئياً، فعلى سبيل المثال كان الارتفاع الأكبر في التصدير  بين 2013-2017 في قطاع الشحوم الحيوانية والزيوت، حيث نمت هذه الصادرات بنسبة 15%، أما فيما يتعلق بتصدير الموارد الطبيعية فقد ازدادت عمليات التصدير غير القانونية، وبعد أبحاث استمرت عامين خلصت المنظمة البريطانية غير الحكومية (ارثسايت) في دراسة نشرت في تموز 2018 إلى أن نسبة قطع الأشجار غير المشروع في أوكرانيا ارتفعت إلى 40%، حيث يقوم موظفون فاسدون بتقرير أن الأخشاب غير صالحة للتصدير، ثم يصدرونها بشكل غير قانوني إلى الاتحاد الأوروبي بمعرفة منتجي الأخشاب في الاتحاد الأوروبي، مع الإشارة إلى أن  قرابة 70% من صادرات أوكرانيا من الأخشاب تذهب إلى الاتحاد الأوروبي، وتبلغ قيمتها مليار يورو في السنة.

وطال الانهيار الذي شهدته أوكرانيا المنقلبة نحو الغرب قطاع الخدمات الصحية، فعلى سبيل المثال في عام 2018 تم تسجيل 65% من إصابات الحصبة الجديدة في القارة الأوروبية في أوكرانيا، كما احتلت أوكرانيا المرتبة الثانية في انتشار وباء الايدز، حيث شهدت فترة 2010-2016 تضاعف عدد الأشخاص حاملي فيروس اتش.آي.

سياسياً استفاد اليمين من الانقلاب، صحيح أن الأحزاب الفاشية الأوكرانية لا تمتلك حالياً نفوذاً قوياً في البرلمان، لكن منظمات اليمين المتطرف  قادرة في المواعيد السياسية الحاسمة على حشد الكثير من الناس بشكل يفوق بوضوح قدرات الليبراليين والمحافظين، وتعتبر ذكرى ميلاد ستيبان بانديرا المتعاون مع الاحتلال النازي من المناسبات السياسية الهامة، وتترافق بانتظام مع مظاهرات كبرى، وقد شبّه عالم الاجتماع الأوكراني فولوديمير ايشتشنكو نائب مدير مركز البحوث الاجتماعية النظام السياسي القائم في البلاد، وتحول الميليشيات المسلحة إلى عامل سياسي حاسم، بالوضع في أمريكا اللاتينية، وفي أفريقيا جنوب الصحراء.

وفي ردة فعل على الوضع الاقتصادي الكارثي، والمناخ السياسي، والتطورات الاجتماعية العامة في أوكرانيا، تصاعدت معدلات الهجرة، وأعلن وزير الخارجية الأوكراني في أيلول 2018 أن  قرابة مليون شخص  يغادرون البلاد سنوياً، وقد صرح هذا السياسي الذي يشغل منصبه منذ عام 2014 لمحطة بث تلفزيوني أوكرانية أن الوضع كارثي، وسيزداد سوءاً في الأعوام القادمة، ومع ذلك، فإن الأحزاب الأوكرانية الحاكمة، والمستشارين الألمان في كييف، ملتزمون بالمسار الحالي.

وخلال الأعوام المنصرمة استقبلت العاصمة الأوكرانية ممثّلين عن مؤسسات بحوث تابعة لأحزاب الاتحاد الديمقرطي المسيحي، والاتحاد الاجتماعي المسيحي، والحزب الليبرالي الألماني، وحزب الخضر، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، وفي شهر آب 2018 افتتح رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية السابق نوربرت لامرت من الحزب الديمقراطي المسيحي مكتباً آخر  لمؤسسة “كونراد أديناور” القريبة من حزبه، وقال في تلك المناسبة: على مستوى العالم توجد قلة من البلدان التي تستضيف أكثر من مكتب واحد للمؤسسة.

ووصلت تداعيات انهيار الصناعة الأوكرانية في أعقاب الانقلاب إلى شرق آسيا بعد مبادرة شركة تصنيع الأسلحة في مدينة دنيبرو بعد بداية الأزمة إلى تسريح الآلاف من العمال، بحيث انخفض عدد العاملين لديها  إلى السدس، وقام بعض المسرّحين ببيع معرفتهم لكوريا الديمقراطية، الأمر الذي أدى إلى نمو هائل في ترسانة كوريا الديمقراطية الصاروخية،  واليوم نشهد محاولات للإطاحة بالرئيس الفنزويلي المنتخب، ونعايش عمليات الحصار الاقتصادي الجائر ضد إيران وسورية، والحرب الشرسة ضد اليمن، وكل هذا يندرج في إطار سياسة تغيير الأنظمة التي ترفض الانصياع الكامل لسياسات الصندوق الدولي، لكن ما حل بأوكرانيا يجب أن يكون بمثابة جرس تنبيه لكل الواهمين بأن عواصم التحالف الذي تقوده واشنطن وبرلين وباريس يكترث لمصير شعوب البلدان المستهدفة المدرجة على قائمة الدول التي يجب تبديل أنظمتها.