دراساتصحيفة البعث

معضلة البريكست

 

باسل الشيخ محمد

توالت التعليقات على المساحة التي خصصت لها على قناتي  BBC وCNN يوم الجمعة الثامن عشر من الشهر الماضي إثر تعرض الأمير فيليب، دوق أدنبرة وزوج الملكة اليزابيث لحادث سير لم يصب فيه بأذى. تناول البث المباشر على مدار ساعتين تفاصيل وضع الأمير لحظة بلحظة وكأن بريطانيا لا تواجه حالياً أكبر مأزق سياسي منذ الحرب العالمية الثانية.

من قال ماذا؟

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي – أو بقاؤها فيه– أمران أحلاهما مر، كانت الحكومة البريطانية قد حددت يوم التاسع والعشرين من آذار كيوم إعلان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (المعروف عالمياً باسم Brexit)، ولهذه الغاية تقدمت رئيسة الوزراء تيريزا ماي بمقترح لاتفاق الخروج على طاولة مجلس العموم البريطاني الذي رفض الاقتراح بأغلبية ساحقة. أضف إلى ذلك أنه لا خطة لدى ماي ولا لدى معارضيها تضمن لبريطانيا ما يعوضها عن ما قد ستفقده إن خرجت من الاتحاد الأوروبي.

مشكلة عدم وجود اقتراح هي أن طرفاً ما سيخسر (NoDeal) أي أن بريطانيا ستخسر ما قيمته 39 جنيهاً استرلينياً من قيمة الصادرات إلى أوروبا، فضلاً عن كارثة اقتصادية أخرى تتمثل في تسوية أوضاع الشركات الأوروبية لأوضاعها لجهة البيع والشراء بموجب القانون الجديد، وهو ما سيزيد من قيمة الخسائر لبريطانيا وللدول الأوروبية على حد سواء.

أين هي الخطة الاقتصادية البديلة؟ أو بالأحرى: لماذا لم تطرح الحكومة ومعارضوها خطتين ليجري التصويت عليهما أيهما أفضل؟.

شهدت ثمانينيات القرن الماضي نقلة اقتصادية نوعية أيام مارغريت تاتشر، والتي اتبعت ما عرف وقتها بالليبرالية العنيفة، اقتضت تلك “الإصلاحات” بخصخصة كبرى الشركات البريطانية، ودخولها في صراع مع نقابات العمال بالتوازي مع توفير مناخ استثماري أفضل للنخب الاقتصادية الثرية في بريطانيا، أدت فكرة هذا النوع القاسي من الليبرالية إلى اندلاع احتجاجات شعبية في بريطانيا أوعزت تاتشر إلى قمعها بقوة في سابقة لم تكن معهودة من قبل في المملكة المتحدة، على أن تلك الفكرة لم تكن إلا صدى لنفس النهج الليبرالي لرونالد ريغان الذي سبقها في هذه الإجراءات في الولايات المتحدة.

هل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مؤشر على توجه سياسي ما لبريطانيا بموازاة التوجه الأمريكي الجديد الذي ….؟

ليس من قبيل الصدفة أن الولايات المتحدة غيرت وجه الليبرالية بالتوازي مع بريطانيا في ثمانينيات القرن الماضي، ولكن هذه ليست هي النقطة الوحيدة المربكة أمام مجلس العموم في مقبل الأيام.

بذور الاستياء

لئن كانت فكرة الاتحاد الأوروبي قائمة على أساس اقتصادي في الأصل، فإن الانسحاب منه يعني أن إقامات الآلاف من البريطانيين في الدول الأوروبية ستصبح غير شرعية، الأمر نفسه بالنسبة لرؤوس الأموال الأوروبية الهامة في بريطانيا، قد يؤدي هذا إلى تضاعف أعداد العائدين إلى ديارهم الذين سيجدون أن فرص العمل فقدت الكثير من شواغرها.

من جهة أخرى، لن تستطيع الشاحنات –في حال تم الانسحاب- أن تدخل إلى المملكة المتحدة عبر إجراءات تسهيل الدخول، يقدر طول صف الشاحنات بنحو 112 كيلومتراً، وهي مسافة أترك للقارئ تخيلها.

إلا أنه وفي ظل تصاعد المد الشعبوي في أوروبا، ليس من المستبعد أن تبدأ حركات شعبية غير حزبية بالنشاط في بريطانيا.

واقع الحياة الحزبية في المملكة المتحدة يضم عدداً محدوداً من الأحزاب، فهنالك الحزب الاشتراكي البريطاني، والحزب الاشتراكي العمالي، وهما محدودا التأثير إلى الآن، وحزب الديمقراطيين الأحرار، وأخيراً هنالك حزب المحافظين المؤيد للملكية.

ولاعتبارات ثقافية واجتماعية لم تنشأ توجهات يمينية في بريطانيا تستعدي الآخرين، غير أن حزب المحافظين الذي تنتمي ماي له يؤيد وضع ضوابط على الهجرة مع التأكيد على متانة العلاقة مع الولايات المتحدة (التي تضع بدورها ضوابط على الهجرة في ظل إدارة ترامب) ودعم الناتو، إلا أنه في ما يبدو سيجد نفسه أمام نقطة فاصلة إن قرر ترامب الخروج من الناتو.

يمكن لهذا أن يؤدي إلى سيناريوهين، الأول: تصاعد مد شعبي يميني يذكرنا بالاحتجاجات أيام تاتشر، من شأن هذا المد أن يزيد في شلل الحركة الاقتصادية البريطانية التي –إلى الآن- لا يبدو أنها ستكون بخير إن أقر اتفاق الخروج. أما الثاني فهو اعتبار النخبة السياسية البريطانية أن المصلحة القومية تعني التنسيق مع الإدارة الأمريكية، وهو ما يذكرنا بتحالف بوش- بلير أواخر القرن الماضي.

وفي حين إن التصور الأول ذو منعكسات داخلية فقط على بريطانيا، إلا أن للتصور الثاني أثره الملموس على استدامة الولايات المتحدة للصراع في عدد من دول العالم، من بينها دول أوروبية وشرق أوسطية. الأمر الذي سيطيل أمد الصراع من الجانب الانغلو- أمريكي بغية الحصول على مكاسب اقتصادية/عسكرية من جهة، وسياسية من جهة أخرى.

احتمالات النجاح

لكن من وجهة نظر أخرى، يرى البعض أن خروجها من الاتحاد الأوروبي هو نقطة انعطاف هامة بالنسبة لبريطانيا، إذ سيمكنها من الحد من عدد اللاجئين الوافدين إليها سنوياً، حيث يقدر عدد اللاجئين فيها حالياً بـ 863 مهاجراً- وهو ما يكلف بريطانيا سنوياً نحو 3 مليارات و670 ألف جنيه سنوياً، وهذا الأمر ينطوي على منع تسلل الإرهابيين إلى المملكة المتحدة من جهة، وتوظيف تلك الأموال في قطاعات حيوية أخرى، فعلى سبيل المثال: سيتم توفير 350 مليون جنيه أسبوعياً، أي ما يعادل ميزانية التعليم الأسبوعية في إنكلترا لوحدها، أو ما يعادل كلفة بناء مشفى.

في هذا الإطار الاقتصادي، يرى البعض أن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيجعل الناتج المحلي البريطاني مخصصاً لبريطانيا وحدها دون أن تضطر لاقتسامه مع دول الاتحاد الأوروبي، كما أنه سيفسح المجال للاستثمار في مناطق أخرى من العالم.

لكن إن نظرنا إلى الصورة الأوسع: هل يمكن الاستثمار في “المناطق الأخرى” لولا أن تلك المناطق أصلاً تعاني ما تعانيه اقتصادياً؟ وهل تلتقي هذه الرؤية مع رؤية الإدارة الأمريكية الحالية التي تهدف إلى أن تكون القطب الاقتصادي الأوحد، وإلى أي نوع من العلاقات الدولية سيؤدي ذلك إن لم يكن استدامة الصراع والتبعيات.

“المناطق الأخرى” تعيد إلى الأذهان حرب الفوكلاند التي نشبت في ثمانينيات القرن الماضي خلال محاولة الأرجنتين استعادة جزرها في المحيط الهادي، كان الخطاب توسعياً وجشعاً واستعلائياً، وفي هذا التلميح ما يكفي عن شرح أثر العلاقة البريطانية- الأمريكية على العلاقات الدولية.