رأيصحيفة البعث

“كلام هراء”

 

ربما كان أبرز وأهم معبّر لصورة عالم اليوم، وسياسييه، وهو ينتقل من حالة الأحادية القطبية إلى حالة التعددية القطبية الفضفاضة – أي حيث تتشكّل الأحلاف الدولية، وتتغيّر أطرافها وفقاً لكل قضية على حدة – هو الكلام المنفلت، أو بالتحديد، “كلام الهراء” الذي تحفل به “تغريدات” ساسة المال والصفقات، الذين أفرزتهم مؤسسات “العولمة” المتعدّدة دون أن تصقلهم سابقاً مختبرات السياسة الحقيقية التي يتعلّم فيها الجميع موقع الكلمة وقوتها، بل وخطورتها، وبالتالي ضرورة التدقيق في حمولاتها التعبيرية وتبعاتها أيضاً، ومنذ دهر طويل قال العرب: “والحرب أولها كلام”.

وإذا كانت جملة “الكلام الهراء” وردت مؤخراً على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب واصفاً بها محاولات خصومه الداخليين إخراجه من البيت الأبيض، فإن هذه الجملة تحديداً هي أقل ما يوصف به كلامه هو ذاته في مواضيع عدة، وآخرها حين جزم، يوم السبت الماضي في مؤتمر العمل السياسي للمحافظين في ولاية ماريلاند، أنه سيهزم “داعش” في سورية بنسبة  100%”.

والحال فإن وجه “الهراء” هنا أن “العنصري” و”المحتال”، كما وصفه محاميه السابق مايكل كوهين، يحاول في جزمه “المئوي” هذا التنصل من دور بلاده في ولادة وحماية “داعش” – وهو ذاته الذي فضح هذا الدور خلال حملته الانتخابية! – كما يحاول التغطية على حقيقة أن “داعش”، وأضرابه، ضرورة حياة، بالمعنى الحرفي، للمشروع الأمريكي في العالم، وسورية ضمنه، وبالتالي، في حالتنا، لـ”حفظ المكاسب الجيوسياسية” المتمثلة بتأمين قطع طريق دمشق- بغداد- طهران- بيروت، وإبقاء الضغط على دمشق ومحورها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وجغرافياً، واستخدام ذلك ورقة رابحة في الصراع العالمي الكبير على المصالح والمنافع، فما يحدث مع “داعش” في “الباغوز” مثلاً ليس معركة حقيقية ينتصر فيها طرف على آخر، بل استكمال لفيلم “هوليوودي” بدأت لقطاته الأولى مع عملية نقل قيادات “داعش” من الرقة إلى “الباغوز”، ثم تواصلت بإخراجهم تحت ضباب معارك سينمائية مقصودة نحو العراق وأمكنة أخرى لاستثمارهم في حرب ابتزازية جديدة. فيلم ليس فيه من مشهد حقيقي ومعبّر سوى مشهد عملية التسلّم والتسليم الفاضحة للدور والوظيفة والغاية، حين سلّم قادة “داعش” في “الباغوز” ربّ عملهم الأمريكي “عشرات الأطنان من الذهب” الذي نهبوه من ثروات المنطقة سابقاً.

بيد أن “الكلام الهراء” لا يقتصر على “ترامب” وحده، فهذا “الكلام” ذاته هو ما يسم أقوال “أردوغان” المتكرّرة عن حرصه على وحدة الأراضي السورية، في الوقت الذي يحمي، بجيشه ودبلوماسيته، “إمارة جبهة النصرة” في إدلب معزّزاً “الوجود الإرهابي تحت ستار وقف إطلاق النار”، متجاهلاً تنفيذ التزاماته بموجب اتفاق “سوتشي” الشهير.

وللأسف الشديد، فإن للعرب، وساستهم، حصتهم المعتبرة من “الكلام الهراء”، وإلا فما معنى أن يستخدم البعض منبر مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي، الذي حمل عنوان “القدس العاصمة الأبدية للدولة الفلسطينية”، للهجوم على دولة ترفع قضية القدس على رأس أولوياتها الوطنية، متجاهلاً المجرم الحقيقي الذي يحتل القدس بحجرها وبشرها منذ أكثر من خمسين عاماً؟!، والأهم، متجاهلاً ضرورة اتخاذ قرارات حازمة، ولو بالحد الأدنى، ضد من نقل سفارته إليها، واعترف بها عاصمة أبدية لـ”إسرائيل” تحذيراً للآخرين، كأضعف الإيمان، من مغبة السير على منواله في تأييد الاحتلال!.

بيد أن الواقع ليس بهذه القتامة كما يقال، وهناك “كلام حقيقي” يواجه، بلحمه العاري، “كلام الهراء” هذا، وإذا كانت كلمة رئيس البرلمان الكويتي في الاجتماع المذكور التي صرخ فيها: “لا للتطبيع لأنه العنوان الفاضح للاستسلام والخضوع”، هي تعبير عربي عن هذا الكلام الحقيقي الفاعل، فإن سورية كانت قد قالت وعلى مدار السنوات الماضية، وبدماء أبنائها: إنها ترفض الإركاع والاستتباع، وإنها ستصمد وتنتصر، وهو ما اختصرته بالأمس، وأمام الاجتماع البرلماني ذاته، بلسان رئيس مجلس شعبها: “لا تخافوا ولا تحزنوا على سورية.. ففي هذا البلد أشقاء لكم سيقضون حتماً على الإرهاب.. وهم بنصرهم سينتصرون لكل العرب والمنطقة”.

أحمد حسن