ثقافةصحيفة البعث

“أحضان مالحة”.. لأن الحياة هكذا

 

 

في روايتها “أحضان مالحة” الصادرة حديثا عن دار بيسان في بيروت تؤكد الروائية ريمة راعي أنها تسير عل خطى تؤسس لمشروعها الروائي بكثير من النجاح والتألق والتفرد، خصوصا في العمل الروائي، مع التقدير لتجربتها اللطيفة في القصة القصيرة، إذ سبق وان صدرت لها مجموعات قصصية منها: (وأخيرا ابتسم العالم والقمر لايكتمل) عن وزارة الثقافة بدمشق. كذلك صدرت لها رواية بعنوان “بائعة الكلمات” عام 2017 في القاهرة. وفي روايتها هذه نحن أمام نص روائي جميل، فيه اشتغالات روائية مدروسة بعناية فائقة، وبأسلوب سردي مدروس ومتقن وموظف بشكل يليق بحيثيات عمل روائي يقرأ بكثير من المحبة، لما فيه من سرد ولغة شفافة رهيفة وممتعة وساحرة. منذ البداية سنجد ذواتنا أمام نص روائي منسوج من عمق الحرب التي مرت على بلدنا سورية، لكننا هنا ومع الكاتبة نحن أمام ابتكارات واشتغالات وبنى نصية وشخصيات وأمكنة وأزمنة تختلف كثيرا عما سبقها من أعمال روائية كانت تيمتها الحب والحرب، وعمل روائي مختلف وهذا مايجيز له مشروعيته المفرحة لما لاقاه من حفاوة ومودة واستقبل فيها بكثير من الشغف في سورية وفي البلدان العربية.
بالعودة لعنوان الرواية ” أحضان مالحة” هو عنوان عصي على تسليم مفتاح الولوج لأعماق دفتيه، هل من القسوة أن نكون قساة على قارئنا حين نطالبه بأن يكون شريكا لنا في نصنا الإبداعي، على صعيد عقد شراكة فيها من الجهد المتبادل بين المبدع وشريكه المتلقي، بغية الوصول إلى خواتيم أنّا تكون حزينة أم سعيدة أم نهاية مفتوحة يرسم لها القارئ فصل الختام أو لنقل النهاية. شخصيات هذه الرواية من واقع يقارب الحقيقة لولا المخيال الإبداعي والمنجز الذي مررته كثيرا الروائية في مطبخها الروائي لتقدم لنا شخصيات مدروسة بعناية فائقة وتقدم ذاتها لقارئها بلا رتوش ولا عمليات تجميل. في هذه الرواية سنجد الذكاء ودخول علم النفس في أسماء شخصيات الرواية، وهذا أيضا يشكل بعدا دلاليا ورمزيا يبعد الشخصيات عن التشظي، ويجعل القارئ على بينة وتماه مع سيرورة الشخصيات وصيرورتها في بعدها النفسي والزماني بل والذهاب إلى تحسس رائحة الأمكنة التي تدور فيها الأحداث من دمشق القديمة، مرورا بباقي الأمكنة في الرواية.
سوار بطلة الرواية اسمها الذي يدمي قلبها حين اختار لها هذا الاسم وهو الذي كان يمني نفسه باسم يطلقه على مولود ذكر، ومن حب أمها للأساور: (سوار كانت بدورها تملك حكاية تروى عن اسمها، بطلها والدها الذي أراد صبيا، وكان يحبّ الأساور التي تضيء معصم من يرتديها، كما صرّح أمام أمها). ص 15، على حين أن بطل الرواية الفنان التشكيلي واسمه (ميرابو) يقول عن اسمه: (هو اسم جسر فوق نهر السين في باريس. الجسر الذي فوقه التقى أبي بحبيبتيه الأولى، حين كان يدرس الطب في فرنسا). ص 15، كذلك شخصية جفرا الطبيبة الحلبية التي ( تحب الفن التشكيلي ولا يفوتها معرض لفنان مشهور أو مغمور) ص 23. كاترين المسيحية، التي تنكّرت لها عائلتها ومجتمعها الصغير حين قررت الزواج بمسلم، (كانت تعتقد أنّ الحب سيكون كافيا ليعوضّها عن فقدان الدعائم التي كانت ترتكز عليها أجزاؤها). ص 26. تقرر كاترين بعد سنة من زواجه لـ(ميرابو) بالرحيل دون تحذير أو مقدمات.
كذلك شخصية سمير المهندس المعماري الذي يفشل في إيجاد عمل بعد تخرجه من الجامعة، وشخصية جليلة التي تتزوج للمرة الثالثة وهي سعيدة، عبد الله وانتظار جفرا له، سنجد كذلك شخصية عقيل الذي كان يلقّبه ميرابو بسلفادور دالي، فكان فنانا تشكيليا غريب الأطوار. كذلك شخصية غسان الشخصية المحورية في بنية هذه الرواية، غسان العائد إلى دمشق والبحث عن الحب مع سوار، وتلك اللقاءات التي تفتح جروح الذكريات. غسان الذي يعود بحب قديم إلى سوار. يقول لها: (الحياة أقسى مما تبدو ياحبيبة. لقد تجاوزت الستين بأعوام، وتجاوزت المغامرة بدهور أنا أجاهد كي أتوازن على حبل رفيع تحته هاوية، أما أنت فغصن أخضر قدره أن يزهر ولن أغامر أبدا باحتمال يباسه. ص111، إذاً سنجد أن شخصيات عادت إلى الوطن وشخصيات بقيت في المغترب. سنجد أيضا هنا في هذه الرواية أن الأزمنة الروائية متشابكة، من دون أن تحرف سيرورة وصيرورة الزمن الروائي أو متعة متابعتها، هنا نحن أمام أزمنة مختلفة تماما، سنكون مع زمن شاقولي وآخر عامودي وأفقي والخطف خلفا (فلاش باك) الرواية في انزياحاتها وتكثيفها من السرد والانزياح والمخيال المكثف، كثف من عمق الحدث الروائي وحماه من السقوط في الابتذال والتكرار السطحي، كذلك حمى ذاته من الوقوع في الترهل والحشو الزائد الذي لايفيد بشيء.
لغة الرواية رشيقة وسلسة وعلى غاية من العذوبة، تمكنت من استدراجنا منذ البداية إلى النهاية ونحن على غاية من الشغف والتوق إلى الوصول إلى الصفحة الأخيرة: (ولعلّها كانت لتكون امرأة سعيدة لو نظرت يوما إلى مير ابو، بعين قلبها ورأته. لكن شيئا من هذا لم يحدث، لأن الحياة هكذا، قبعة حاو كبيرة، لايمكن التنبؤ بما قد يخرج منها). ص 124.
أحمد عساف