ثقافةصحيفة البعث

البندقية والكمان.. يوميات وهواجس من زمن الحرب

 

إذا كان لابد من المرآة فقد أكتشف الإنسان على سطح الماء الذي تختبئ به درر الحياة أول مرآة أستأثرته، ولكن كان لابد من مرآة أكثر صدقا وعمقا وديمومة تعانق الزمن ولا تبهت من أول موجة ريح تعصف بالماء، أوجد الإنسان من أبجديته مرآة أجمل، إنها اللغة بتفاصيلها القيمة، وعلى ذلك اشتغل الشاعر نزار بني المرجة في هذا الكتاب. لقد أراد أن تكون صفحاته مرآة دقيقة لتفاصيل محنة تاريخية عصفت بوطنه سورية، وكأنه أحد أغصان شجرتها البشرية التي تقاوم إعصار وويلات التاريخ بالحكمة والأمل، وإذ أن الشعر أبلغ الأدوات جعله النصيب الأوفر بكتابه ويبثه المواجع والمعاني التي تحمل صورة التجربة القاسية لتكون كوثيقة تأريخ مدرسية أخلاقية تعيد بناء المجتمع على أسس صحيحة، إذ ملخص الإرهاب الدمار ومعنى الحب الحياة الأبدية.
وضمن هذه الأبعاد التي أوحى لنا الشاعر بها تعالوا نقتفي المعنى ونتوارى في جنبات الجمال الفكري الآثر لمرآة الأزمة الأصدق روحا ومعنى، إذ أنه الشعر ترجمان الشعور ونبعه العذب، يقول:
في صباح 10\5\2011 نفذ التكفيريون تفجيرا في منطقة القزاز في حارة الزيتون، وكان بينهم صديقي العميد الذي استشهد، ولأكتب بعدها بحزن قصيدة:
سلاما/ حارة الزيتون/على ضوء شمعٍ أعود/وفي القلب زيتٌ ودم/في القلب شمعٌ يذوب/في القلب حبٌ قديم/قامة ضوءٍ تسمى يسوع/وحبٌ لقامة ضوءٍ.. لأجمل أم
أنا العاشق الأبدي يا “حارة الزيتون”/ولازلت أوغل في القداسات/ مرآة روحي دمشق
كأني أدخل أبوابها/تلاقت جميعا بـ (باب السلام).. ص 14
وقد تناغمت التجربة الإبداعية في كتابه بين الشعر والقصة القصيرة التي طالت لغة البلاغة المصورة لأحداث مترادفة كما في مقالة “البندقية والكمان” التي استهل بها كتابه: “الشكوى المستمرة لشقيقة زميلي الطبيب (وهي عازفة بيانو مرموقة)، هي أنها لم تعد تستطيع تسجيل عزفها الشخصي للمقطوعات الموسيقية، لأن أصوات القذائف والطلقات أصبحت تتداخل دائما مع عزفها الموسيقي أثناء التسجيل، وكأنها أجزاء صوتية نشاز تقتحم الموسيقى دون استئذان.
ويتابع: “…قلت في نفسي يومها (وكلي ثقة) بأن عدد البنادق في هذا العالم أكثر بكثير جدا! من عدد آلات الكمان..!! وقلت استطراد وكلي ثقة أيضا): كثيرون جدا! من يتقنون إطلاق الرصاص في هذا العالم، وقليلون جدا!، من يجيدون العزف على الكمان أو غيره من الآلات الموسيقية!.
بدا لنا من مثل هذه الفقرات التوصيف والتأريخ المفعم بالمشاعر والمتوغل بالتفاصيل التصويرية سمة الأدب وبلغة رقيقة منبعثة من فكر شاعر، ومن ثم انطلق إلى النصية التي تشبه المقالة؟.
ومن تسمية الكتاب (يوميات هواجس من زمن الحرب)، تبدى لنا معنى وصفة صياغة هذا الكتاب إذ أن المقالة جاءت توثيق إنشائي لحوادث يومية، في حين القصة القصيرة والشعر النثري كانا ظلالا على الورق للهواجس، ومن هنا تتبدى جمالية الكتاب، إذ هو من ضمن الكتب الهامة المنشورة في ظل ظروف الأزمة المتراكمة بالتساؤلات والغثيان والخوف.
دعوة أراد دمج الخاص بالعام، لا بل تجسيد العام من خلال تجربته الغريبة، إذ يقول: “في صباح الأحد 12\8\2012 عند عقدة القابون لجهة البانوراما، فوجئت بشخصين مسلحين يشهران مسدسين باتجاه رأسي وقاما بسلب سيارتي في عملية سطو مسلح، وعلمت فيما بعد أنه في الليلة السابقة تم اختطاف شرطي السير مع دراجته من ذات المكان، ويومها كتبت:
يحدث أن يدعوك الموت/يقترب كثيرا.. ومرارا تنجو!/لكن الموت يلامس هذه المرة عقر الدار/وتكون الشهقة والـ”آه”/يدعوك الموت المرة تلو المرة/ يحتل شغاف القلب |ويلامس روحك/يقترب كثيرا لا كي ترحل/لا كي يرحل/بل لتراه! ص 38
وفي مقطوعة رثاء أخير لزرقاء اليمامة استطاع أن يقدم إسقاطا رائعا وتوظيفا للتاريخ بقراءة شاعر، إذ يقول بنهاية المقالة “ما أشبه لقب الربيع العربي الذي أطلقه أعداء الأمة لذر الغبار في العيون.. أجل ماأشبه هذا “الربيع” المشؤوم بالأشجار الباسقة التي كان يتوه بها أعداء الأمة حين رأتهم جدتنا زرقاء اليمامة بنظرها الثاقب وأشارت حينها إلى أول عملية تمويه في التاريخ يقوم بها أعداؤنا”؟
ودعوة حارة متأخرة لرثائك ياجدتنا الغالية (زرقاء اليمامة ..) وبلغة درامية أتقن الوصف التوثيقي لأحداث آنية تعايش معها بشغف اللهوف على خباياها وضمنها بدقة مقالاته، ففي مقالة “وللقداسة شكرتني سماحة الأم “مريم أغنايس الصليب”.
لقد تميزت المقالة لديه بأسلوب الرواية المشوق إذ ضمنها الحوارية والتوصيف المكاني والزماني لتكون لوحة متكاملة الأبعاد لفكرة أراد توثيقها بأمانة، وهذا ما يجذب القارئ ويبعث المتابعة لخبايا الكتاب التي جاءت ملونة كقوس قزح مابين الواقع والمشاعر التي تهيم بها الشخصيات، والأبجدية البسيطة التي استخدمها برهافة قلم شاعر، واختتم كتابه بقصيدة عبر فيها عن أبجدية الحرب الضروس:
“طائر الوعد/من فوق من عليائك الزرقاء/هل رأيت دمي..؟/أنا لست (هابيل) الضحية/ لست انتظر الغراب/كي يواري جثتي!/ هم افلحوا في القتل والروح تمتلك الجواب:
أنا العقاب.. أنا العُقاب!/ أنا وسط شلال الدماء/سيظل مائي في فمي/أنا طائر الرعد المدمى/كبد السماء فضائي الموعود/وأنا المحلق في دمي/أنا طائر الفينيق تقصدني القوافل والنهاية/كي تصير المبتدأ”.
رجائي صرصر