الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

نزار قباني

حسن حميد

حياة بعض الأدباء والشعراء والمفكرين تشبه النشيد العذب في الحضور والجمال والمعنى، وكتابة بعض الأدباء والشعراء والمفكرين تشبه رحلة في عالم غامض من أجل الكشف والبيان والوقوف على الأسرار العصية. وحياة بعض الأدباء والشعراء والمفكرين وكتاباتهم تشبه نهراً جموحاً يركض الماء في سريره مثل الخيول في ساحات الوغى فلا يعرف تعباً أو هدأة أو شكاية، ويتجلى الجمال به ومن حوله ضفافاً من الأشجار والأعشاب والقرى.
ومن هؤلاء نزار قباني الشاعر الذي بدأ غرّيداً محلّقاً، زاهياً بألوانه، متفرداً بدروبه، ثقيلاً بموهبته، ساحراً بما أعطته روحه من قصائد، ونثر، ومواقف باتت علامات منقوشة في مدونات الإبداع والكتابة والأدب، فهو، ومنذ أن كان طالباً في معهد الحقوق في جامعة دمشق، تجلّت موهبته الشعرية، فأصدر ديوانه الأول “قالت لي السمراء” على نفقته الخاصة فأحدث دويّاً هائلاً وسط حضور أسماء أدبية وشعرية كبيرة في المشهد الثقافي السوري آنذاك، الأمر الذي جعل هذا المشهد الثقافي يستدير نحوه بكليته لأنه وعى أن صاحب هذا الديوان شاعر من عالم آخر في المكنة والصنعة والرؤيا.
وقد قيل في ديوانه الأول الكثير، بدأ بالرجم وسط شغب الآراء وحدّتها، ثم انتهى إلى أنه ديوان يروم تحرير المرأة من أسر اجتماعي مخيف يرتدي أقنعة مخيفة أيضاً. وعبر هذا الديوان رسم نزار قباني خرائط جديدة للشعر العربي، فكرتها الجوهرية هو أن مفهوم الحرية المتعلقة بالمرأة ما زال مفهوماً حلماً، أو على الأقل هو مفهوم يخرج شائهاً من بين يدي الرجل، وأن الذكورية المريضة ما زالت تعمل منفردة عبر نظرة قاصرة تجاه المرأة التي لم تخرجها من مربع الحصر والضيق “الأنوثة” إلى مربع السعة والاجتماع “الفرد”!
وأن الأيدي المعوان للرجل ما زالت كثيرة ومتعددة، ومنها العادات والتقاليد والأعراف والتصورات التي تفوق بقوتها، وسطوتها، في بعض الأحيان، قوة القوانين الوضعية.
وعلى الرغم من الأذيات الرجيمة التي لحقت بالشاعر وديوانه “قالت لي السمراء” في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين المنصرم فإنه لم ينكص عن مشروعه الرؤيوي تجاه المرأة فطالب بالمزيد من حريتها كي لا تظل نهباً للعادات والتقاليد، وأردفه بثلاثة دواوين مشت في درب الديوان الأول، وقالت ما قاله، وبتشريح اجتماعي أدق وأوفى قناعة نزار أن حرية المرأة تعني حرية المجتمع وافتكاكها من أسر النظرة السكونية. ومع أن نزار قباني الذي ذهب إلى تمثيل البلاد السورية دبلوماسياً في القاهرة أولاً بدءاً من عام 1945، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، واختتاماً بمدريد عاصمة البلاد الأسبانية سنة 1966، فإنه مضى في حفره المعرفي لتثبيت قناعات جديدة تجاه المرأة الجديدة التي أراد للمجتمعات العربية أن تشتقها وتباهي بها.
صحف، ومجلات، ومنابر، وحدود، ونقابات، وتيارات أدبية، وأخرى سياسية، وثالثة اجتماعية، ورابعة عقائدية عادت نزار قباني وقصيده، وهو لم يتزحزح عن قناعاته التي دار حولها الكثيرون، ومنهم أعداء شعره، إلى أن آمنوا بها. كانت سنة 1967 سنة تحول مهم في تجربة نزار قباني فقد خرّبت نكسة 1967 دورته الدموية، وعافيته الوطنية فكتب شعراً جاب الماضي والراهن كي لا يركن أهل الوطنية إلى ما حدث لأن العافية الوطنية هي جوهر الذات العربية.
نزار قباني لم يكن شاعراً عادياً، ولا رائياً عادياً، ولا مثقفاً عادياً، وإنما كان في شعره حضوراً مضافاً للشعر العربي، وكان في وعيه وعياً مضافاً للوعي العربي، وكان في ثقافته ثقافة الذات الموسوعية صاحبة العين الموشورية، ولهذا فإنه اليوم دنيا خصيبة يزينها الشعر، والموقف الوطني، والحضور المعرفي البهّار!
Hasanhamid55@yahoo.com