ثقافةصحيفة البعث

إن كان لابدّ من الموت فاسقني الخمرةَ، وافصدني!

 

جرأة القول السّابق يكثّفها شاعرٌ قديم ببيتٍ واحدٍ من الشعر، كاشفاً المصائر الدراميّة لكلّ من خوّلته نفسه التّغريد خارج السرب، أو سوّلته قناعاته الخروج على القواعد الاجتماعيّة النّمطيّة المتعارف عليها،التي أرستْ “السلطات السياسيّة والدينيّة” أو أيّة سلطة رمزيّة تملك شروط الهيمنة بشكلٍ أو بآخر، تابوات نُظمِها وخطوطِها الحمراء، فيقول:
كمْ في المقابر من قتيلِ لسانهِ كانتْ تهابُ لقاءَه الشّجعانُ
حقيقة، هناك أسباب مختلفة أدّت لهدر حياة الكثير من الأدباء والمفكّرين والمتصوّفين عبر التاريخ (من ابن المقفّع معرّب الكتاب الشهير الناقد على لسان الحيوانات “كليلة ودمنة” إلى الحلّاج المتصوّف الشهير صاحب “الطواسين” والأعشى الهمداني الشاعر الفصيح الذي خرج على الدولة الأمويّة وهجا حاكم العراق آنذاك “الحجاج بن يوسف الثّقفي”،ودعبل الخزاعي الشاعر الذي كان لم يسلم أيٌّ من الخلفاء العباسيين من لسانه القاسي الهجاء، وبشّار بن برد الشاعر الأعمى الجريء في نهايات العهد الأموي المستخفّ بالأعراف والتقاليد والمتهم بالزندقة، والمرمي في مياه دجلة، وضّاح اليمن الذي قتُل لتغزّله بزوجة الوليد بن عبد الملك،والمتنبّي الذي قتله شعره، طَرفة بن العبد المقتول لمباهاته بنفسه كثيراً وسخريّته من ملك الحيرة وأخيه العابث، دوقلة المنبجي عاشق “دعد” الذي قال بها قصيدته المسمّاة بـ”اليتيمة” المقتول على يد أعرابي حاول أن يتبنّاها باسمه ويتّخذ “دعد” عشيقة له، إلى الشاعر المنحوس عبيد بن الأبرص الذي قتل في يوم بؤس الملك “المنذر بن ماء السّماء” إلى الزير سالم الذي قتله مرافقاه أيضاً،إلى فرج فودة المقتول على يد أصولييّ العصر الحديث،والقائمة تطول وتطول..) والاتّهامات جاهزة دوماً مثل: (الهرطقة،الزندقة،التّجديف،البعد عن الدين،التّطاول على الذات الإلهية،الخروج على أولي الأمر، الهجاء أو الغزل والتّشبيب أحياناً) ولكن ثمّة أسباباً أخرى بعيدة كلّ البعد عن الخلفيّة السياسيّة أو الدّينيّة كانت تودي بصاحبها إلى التهّلُكة أيضاً، لمجرّد أنّه في لحظة زهو امتدحَ نفسه، وافتخر بها وتعالى على أصحاب النفوذ، ليواجه بأقواله في اللّحظة القاتلة، فإذ به لا يستطيع تراجعاً،مع أنّ الثقافة الشعبيّة الواقعيّة البراغماتيّة سهّلتْ لمن يريد الهروب أن يفعل ذلك بقولها: “الهريبة تلتين المراجل” بل حتى الحكمة والمنطق يبرّران ذلك أيضاً، ولا يجدان سبباً مهمّاً يستدعي خسران الإنسان لحياته في سبيل ميتةٍ مجّانيّة، وقد وعى “غاليليه” هذه المعادلة تماماً، حين هُدّد من قبل محاكم التفتيش الكنسيّة بأن يتراجع عن أقواله حول دوران الأرض. ثمّ ما إن بقى لوحده حتى ضرب الأرض برجله قائلاً: ومع ذلك فأنت تدورين وتدورين. هكذا الحقيقة ستظهر إن عاجلاً فآجلاً، ولا يستطيع أحد حجب الشّمس بغربال كما يقال!. ها نحن سنأخذ مثالين تاريخيّين شهيرين لشاعرين ينتميان إلى جيلين مختلفين ويكتبان بأغراض شعريّة مختلفة، لندلّل على مفارقات ما نبغي قوله “أبو الطّيّب المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس، وطَرفة بن العبد الشاعر الشّاب العاشق، شارب الخمرة النّهم. فشاعرنا الكبير المتنبي كان ضحيّة افتخاره الشّديد بنفسه، وقد فكّر بالنّكوص في لحظةٍ عاصفة وُضعتْ فيها حياته على المحكّ،لكنّ غلامه الذي كان بصحبته هو وابنُه “محسّد” ثناه عن ذلك معاتباً بقوله: ماذا سيتحدّث الناس عن فرارك؟ ومذكّراً إيّاه بقوله الشّهير:
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني والسّيفُ والرّمحُ والقرطاسُ والقلمُ
فجاوبه المتنبي عارفاً أن لحظة المنيّة قد دنتْ: قتلتني قتلكَ الله.
فردّ الغلام بلسان حاله: بل قتلكَ شعرُكَ
ثمّ عاد أبو الطيّب أدراجه وقاتل باستبسال، إلى أن قُتلَ هو وابنُه وغلامُه على يد قاطع الطريق “فاتك الأسدي” وعصابته،انتصاراً منه لابن أخته الذي تعرّض للمتنبي وصحبه بالشتم في الطريق فتناوله المتنبي بكلماتٍ لاذعة نالت من شرف أمه،وهي التي تعرّضت للاغتصاب وكان من ثمرات ذلك ظهور الشّاتم في هذه الحياة.
وأمّا شاعرنا الملقّب بالغلام القتيل،الذي مات عن ستّةٍ وعشرين سنة، الشّاب الهازئ ذو الأنفة والكرامة “طَرفة بن العبد” فقد كان يمشي بخيلاء حتى أمام ملك الحيرة “عمرو بن هند” الذي أمره هو وخاله الشاعر “المتلمّس” بملازمة أخيه “قابوس بن هند” الفتى العابث المشغول باللّهو والقنص والشراب ما سبّب لهما تأفّفاً، فسخرا من الملك وأخيه بتشبيه الأوّل بالبقرة، والثاني بالأحمق، يقول “طرفة”:
فليتَ لنا مكانَ المَلكِ عمرو رغُوثاً حول قبّتنا تخورُ
لعمركَ إنّ قابوسَ بن هندٍ ليخلُطُ مُلكَه نَوكٌ كثير
ولخشية الملك من غضب عشيرة طرفة والمتلمّس، استدعاهما وحمّلهما دون أن يعرفا رسالة إلى عامله في البحرين “المكعبر” ليقتلا بعيداً عنه. لكنّ المتلمّس الخبير بشؤون الحياة ومخادعاتها نجا بنفسه بعد أن شكّ بالرسالة فوجد من يقرأها له، لأنّه لم يكن يعرف القراءة كما قيل، وقد دعا ابن أخته “طَرفة” لفعل ذلك، فرفض مدفوعاً بحماس الشّباب وجموحه، أن يفعل مثله، غير متهيّبٍ الذهاب بقدميه إلى حتفه الأكيد. لكن عامل البحرين حاول الإيعاز له بالهرب لما بينهما من قرابةٍ ونسبٍ،فرفض أيضاً، وكيف يهرب وهو القائل:
إذا القوم قالوا من فتى خِلتُ أنّني عُنيتُ فلم أبخلْ ولم أتبلّد
فأمر المكعبر بحبسه وراسل ملك الحيرة بأنّه سيستقيل، فليبعث أحداً مكانه، فبعث رجلاً من تغلب وجيء بطرفة إليه فقال له: إنّي قاتلك لا محالة فاختر ميتةً لنفسك أنت تهواها،فردّ طرفة: “إن كان ولابدّ فاسقني الخمر، وافصدني” ففعل وتركه ينزف حتى الموت.
هل ثّمة شجاعة أم تهوّر في هاتين الحادثتين العاليتيّ الدراميّة أم ماذا؟ أعتقد أنّ المسألة أعقد بكثير من هذه المصطلحات ففي اللّحظة الكثيفة الفارقة، التي يمكن توصيفها بلحظة الحواف والبرازخ، حيث تتعرّى النفس تماماً أمام مرآتها الدّاخليّة،فتصبح غير قادرة على الانفلات من قناعاتها، لأنّها ستخسر أهمّ ما بُنيتْ عليه وهو مصداقيّتها وسبب وجودها، ولذلك فإنّها ستقدم على الأمر الذي اختطّته لمسارها مهما كلّفها ذلك من تضحيات جسام. وسؤالها الحارق الذي لابدّ وأنّها واجهته في تلك البرهة الغارقة في العدم هو: ما النّفع أن تربح العالم كلّه، وتخسر نفسك؟ أليستْ هذه صفات النفوس الكبيرة وما أقلّها، يقول حكيم!.
أوس أحمد أسعد