دراساتصحيفة البعث

امبـراطوريات إفريقيا المنسيــة

 

عناية ناصر

لا تزال علاقة إفريقيا بالعالم الأوسع تُفهم إلى حد كبير من خلال الاستعمار. ولكن قبل ذلك كانت هناك قرون من التواصل والتفاعل مع الأجانب، وليس مع الأوروبيين فقط.
يزعم الفيلسوف الألماني هيغل أن إفريقيا “ليست جزءاً من تاريخ العالم”. لهذا كانت النتيجة الطبيعية لذلك هي أن التاريخ الإفريقي لم يبدأ إلا عندما بدأ الأوروبيون بالوصول إليها. وقد أصبحت هذه الفكرة، بأشكالها المختلفة إحدى المغالطات التي نُشرت لتبرير تجارة الرقيق في المحيط الأطلسي، والاستعمار، والمركزية المتعالية التي اتسم بها الحكم الأوروبي حتى إنهاء الاستعمار في ستينيات القرن العشرين.
للأسف، لا يزال هذا التصويب ضرورياً، إذ إن ماضي إفريقيا لا يزال يُفهم إلى حد بعيد، من خارج القارة، من خلال الحقبة الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين. وفي بعض الأحيان يمكن أن يصبح الجدال حول التاريخ الإفريقي أسير انقسام زائف، بين إرث الرواية الأوروبية المألوف، التي يسيطر عليها المستكشفون، والمبشرون، وقوارب البنادق، ورشاش مكسيم، وقصة تركز على السمة الإفريقية لإفريقيا ما قبل الاستعمار. يمكن أن يحجب هذا الخط المرسوم بين شكلين من التاريخ، نقطة رئيسية، أن هناك عدة قرون من الاتصال والتفاعل مع الأجانب، وليس الأوروبيين فقط قبل الاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر. إنها تلك القرون من التفاعل ذات التأثير الاقتصادي طويل الأجل على إفريقيا التي تم استكشافها بتفاصيل غير معتادة في كتاب توبي غرين الجديد، الجدير بالملاحظة، “حفنة من الأصداف.. غرب إفريقيا من صعود تجارة الرقيق إلى عصر الثورة”.
إنه ليس تصنيفاً سهلاً، بل هو في جوهر التاريخ الاقتصادي الذي يطرح فيه المؤلف سؤالاً مليئاً بالتحديات، يتساءل المؤلف فيه عن السبب في أن التبادلات الاقتصادية بين إفريقيا وأوروبا أصبحت غير متكافئة إلى حد كبير مع مرور الوقت– منحازة لأوروبا ومعيقة قدرة المجتمعات الإفريقية على تكديس رأس المال؟! وما هو الدور الذي لعبته تجارة الرقيق عبر الأطلسي في هذه العملية؟ يفسر الطموح الذي تهدف له الأطروحة المركزية حجم الكتاب- أكثر من 600 صفحة– ومع ذلك يبدو هذا مقيداً تقريباً نظراً للغزارة المعرفية لدى غرين.
“حفنة من الأصداف” هو ثمرة البحوث التي أجريت في أرشيف تسع دول واستلزمت من المؤلف القيام بعمل ميداني عبر ثماني دول غرب إفريقيا. تقدم الممرات من رحلات المؤلف ملاحظات ونوادر ترتبط بالماضي بشكل مفيد حتى يومنا هذا، وتقدم صدى لأرواح وتجارب الأفارقة أنفسهم. تمثل أطروحة غرين، في نهاية المطاف، بعيداً عن الاقتصاد، تأملاً فلسفياً تقريباً حول طبيعة قيمة ثقافات ومجتمعات مختلفة خلال حقبة طويلة من العولمة المبكرة.
ما يميز الكتاب أنه غير عادي ليس من حيث حجم المصادر فحسب، ولكن من حيث نطاقها، فاستخدام التاريخ الشفهي لمجموعة رائعة من المجتمعات الإفريقية هو منعش بشكل خاص. وقد قام غرين في مقدمة كتابه أيضاً بنشر أعماله الفنية الرائعة- سلسلة من اللوحات الفنية لفنان هولندي رسمها في منتصف القرن السابع عشر في البرازيل، وكانت أجزاء منها قد أكملت بعد ذلك في أمستردام. تظهر إحدى اللوحات وجه دوم ميغيل دي كاسترو الذي كان، والذي على الرغم من اسمه البرتغالي ولباسه الأوروبي المزخرف، سفيراً من الكونغو، وهي مملكة إفريقية كانت متحالفة مع الهولنديين. وقد أثارت نفس الصورة إعجاب الزوار بمعرض التاريخ الأفرو أطلسي في ساو باولو العام الماضي.
هذا العرض الواسع من المواد يجعل من المثير للاهتمام أن نتساءل عما إذا كان غرين قد تمكن من رسم بانوراما أكثر وضوحاً للفترة السابقة كما لو أنه تمكن من استدعاء أرشيف القرنين الخامس عشر والسادس عشر للبرتغال، الدولة الأوروبية التي لديها أطول تاريخ تجارة في إفريقيا. تم فقدان العديد من هذه السجلات- المتعلقة بالتجارة ولكن أيضاً بالدبلوماسية والحرب والعمل التبشيري- مع قسط مجهول من الثقافة المادية إلى جانب ذلك، في 1755 عندما ضرب زلزال تسونامي مدمراً لشبونة (الكارثة في مركز كانديد فولتير)، طمس المدينة ومحا الوثائق التي أرّخت للقرون الثلاثة السابقة للتجارة مع إفريقيا. تبدو هشاشة المصادر الوثائقية والمواد الثقافية مرة أخرى من خلال استخدام غرين التهديد بالحرب الذي أرسل من قبل ملك أدندوزان من داهومي سيئ السمعة (وهي ولاية تقع في بنين الحالية) إلى لشبونة. على الرغم من إعادة إنتاجه فقد المعيار نفسه بالحريق الذي دمر متحف البرازيل الوطني في ريو دي جانيرو في عام 2018.
من خلال جمع العديد من المصادر، استطاع غرين تفنيد نفي هيغل للتاريخ الإفريقي على مستويين، ليس لأن إفريقيا تاريخاً طويلاً ومعقداً فحسب، ولكن لأنها تتشارك الكثير من ذلك الماضي مع لاعبين آخرين في اقتصاد تجاري عالمي يمتد على مدى ألف عام. إن إفريقيا التي تظهر هنا هي واحدة هيمنت عليها العديد من الممالك والامبراطوريات القوية، التي حكمها في كثير من الأحيان سلالات وقادة أقوياء، لكل منهم هواجسه وطموحاته الخاصة. إنها قارة من المعتقدات والممارسات الثقافية والدينية المعقدة، تنهض وتسقط فيها مجتمعات عسكرية وأحياناً متحضرة نسبياً. بعبارة أخرى، لم تكن المجتمعات الإفريقية مختلفة قليلاً من الناحية الهيكلية عن ممالك أوروبا وشمال إفريقيا التي كانت تتعامل معها. حيث كانت الاختلافات حادة، كانت في المعاني والقيم المرتبطة بمختلف السلع والبضائع، بما في ذلك الأصداف الرملية التي يحملها عنوان الكتاب. والتي تم شحنها إلى إفريقيا من جزر المالديف في المحيط الهندي بكميات هائلة وعلى مدى عدة قرون، واستخدمت الأصداف كنوع من أنواع العملات من قبل العديد من الشعوب الإفريقية.
لقد تطورت التجارة في الأفكار والتقنيات والفن والثقافة بين إفريقيا وشركائها في كلا الاتجاهين، وهو واقع أبرزته تجارة العبودية، وهو أمر بحثه غرين بعمق كبير. لم يقتصر الأمر على السلع والبضائع الإفريقية التي وصلت العالم عبر شرايين الأطلسي، بل شمل نقل المعرفة الثقافية ورأس المال الفكري إلى أذهان ملايين البشر في العالم الجديد الذين كانوا أنفسهم سلعة ومبادلة. خاض المارونون، وهم جماعات من العبيد الهاربين الذين ظهروا في جامايكا وبنما وأماكن أخرى، حروبهم باستخدام النظريات العسكرية التي تعلموها في قارتهم الأم. وبالمثل، كانت مزارع الأرز في كارولينا الجنوبية تزرع ليس باستخدام العمالة الإفريقية فقط، ولكن أيضاً باستخدام المعرفة الإفريقية، فقد تم نقل هذه الخبرة عن قصد إلى الأراضي الأمريكية من قبل تجار العبيد البريطانيين الذين استعبدوا آلاف الأشخاص من مناطق زراعة الأرز في سيراليون. وقد تم اختطاف هؤلاء الأفارقة لاستغلال عقولهم باعتبارها سلعة ثمينة مثل أجسادهم.
في كتابه “حفنة من الأصداف” يشير غرين إلى الظل التاريخي الطويل الذي يكمن وراء تخلف إفريقيا الحديثة، مؤكداً أن الزراعات النقدية أحادية المحصول التي فرضتها الدول الاستعمارية على الدول الإفريقية في القرن العشرين لها جذور جزئية في اقتصادات المزارع في القرن التاسع عشر، عندما استخدم القادة الأفارقة الأقوياء بتشجيع من بريطانيا ودول أخرى، الاستعباد والإكراه في زراعة القطن والفول السوداني وزيت النخيل للتصدير. وبالمثل، فإن انعدام الثقة في القادة المحليين في القرن الواحد والعشرين في إفريقيا، كما يرى غرين، له علاقة بتمزق العلاقة بين النخب وشعوبها في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بسبب تجارة الرقيق والحروب وعدم الاستقرار الذي تشيعه.
على الرغم من أنه ليس دائماً أسهل النص الذي يجب اتباعه- النهج الرياضي في بعض الأحيان يحجب الإحساس بالسرد النامي– فإن الكتاب عمل مذهل من الأبحاث والحجج، وله القدرة على أن يصبح علامة بارزة في فهمنا للقارة التي أسيئ فهمها.