دراساتصحيفة البعث

الوجه الحقيقي للديمقراطية التي تروّج لها واشنطن

د. مازن المغربي

يبدو أن أفراد الطغمة المالية المتحكمة بسياسة الولايات المتحدة لم يعودوا يعبؤون بتغليف أطماعهم بصيغ مخادعة، بل صاروا يصرّحون عن نواياهم دون أي تردد، تم استنزاف شعار الدفاع عن حقوق الإنسان، والترويج للديمقراطية بوصفها النموذج الصالح لحل مشاكل العالم، وبالنسبة لواشنطن لم يعد هناك سوى نحن التي يقصد بها مجموعة صغيرة من أصحاب الثروات الضخمة الذين يشكّلون طغمة مالية، أو اوليغارش.
صارت القرارات المصيرية تتخذ في اجتماعات مديري المصارف العملاقة، ومالكي الشركات الضخمة، ليس الأمر بالجديد، حيث يرى البعض من الممسكين بالقرارات الكبرى أن حرية الرأي، وحقوق الناس، وما إلى ذلك من قيم الديمقراطية المزعومة فقدت صلاحيتها بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي، وبلدان الديمقراطيات الشعبية في شرق أوروبا، لم يعد هناك نموذج اقتصادي منافس بعد فرض قوانين السوق الرأسمالية على كل العالم، ووصل تمركز السلطة والثروة إلى حد غير مسبوق، ففي العالم أقل من سبعة آلاف ملياردير يتحكمون بمصائر المليارات السبعة الذين يشاركونهم العيش على الأرض، أي أن مصير البشرية والكائنات الحية، والغطاء النباتي، وكوكبنا بأسره، صار في أيدي نخبة لا تتجاوز نسبتها واحداً بالألف من بني البشر، بل إن طموح هذه النخبة امتد ليشمل الفضاء الخارجي، والكواكب الأخرى!.
لنلق نظرة على أوضاع العالم بعد نهاية التاريخ المزعومة التي طرحها فرنسيس فوكوياما إثر انهيار المعسكر الاشتراكي عندما انفردت الولايات المتحدة على مدى عقود بتوجيه دفة مسار العالم، وكانت النتيجة كارثية: سلسلة لا تنتهي من الحروب، ومؤامرات لزعزعة استقرار العديد من البلدان، وتهميش منظمة الأمم المتحدة، وانتهاك مستمر للقانون الدولي القائم على مبدأ سيادة الدول!.
في كتاب جديد للباحث الألماني رينر ماوسفيلد نجد عرضاً مفصلاً للتداعيات الكارثية التي تسببت بها النخبة المالية المتحكمة بالعالم، عنوان الكتاب وحده أكثر من كاف للشعور بالمرارة: “لماذا تصمت الحملان؟”، والمقصود بالحملان شعوب بلدان الديمقراطيات الغربية التي تم تطويعها بشكل منهجي عبر نظام التعليم ووسائل الإعلام، أما العنوان الفرعي للكتاب فهو: كيف تمكنت النخب الديمقراطية والنيوليبرالية من تدمير مجتمعنا، وأسس حياتنا؟ ليخلص إلى أن الديمقراطية والحرية أفرغتا من محتواهما، وأن النظام القائم في بلدان الديمقراطيات الغربية لا يعدو أن يكون وهماً للديمقراطية تم اختزاله في دعوة الحملان للتصويت دورياً لانتخاب هيئات صورية لا تمتلك القدرة على التأثير على وجهة الأحداث!.
ومن جهته لخص جان زيغلر الذي شغل بين عامي 2000-2008 منصب المستشار الخاص للأمم المتحدة للحقوق والغذاء، وضع العالم في ظل العولمة المتغوّلة، وقدّر عدد ضحايا النظام العالمي الجديد بأكثر من خمسين مليون نسمة سنوياً، وقال إن 800 مليون إنسان يعانون من سوء تغذية مزمن، ويموت منهم 30 مليوناً سنوياً، بمعدل يقارب مئة ألف شخص يومياً نتيجة الجوع، على الرغم من أن منظمة الفاو التابعة للأمم المتحدة قدّرت أن الموارد الزراعية في الكوكب تكفي لتأمين تغذية 12 مليار إنسان، أي قرابة ضعف سكان الكوكب، وهناك مليار شخص غيرهم يعيشون على حدود الفاقة، وبالكاد يحصلون على ما يضمن استمرارهم على قيد الحياة، تضاف إليهم مئات الملايين من المجبرين على العيش على هامش الحياة، وثمة 40 مليون شخص يعيشون في ظل أشكال جديدة للعبودية، في حين يموت سنوياً أكثر من ستة ملايين شخص نتيجة لتدهور وضع البيئة.
ونصل إلى ضحايا الاعتداءات العسكرية المباشرة، ففي عام 2016، وفي ظل رئيس الولايات المتحدة المنفتح باراك أوباما، تم قصف سبعة بلدان يسكنها مسلمون بستة وعشرين ألفاً ومئة وإحدى وسبعين قنبلة، وتضم سجلات معهد أبحاث القوى الجوية في الولايات المتحدة بيانات توثّق مكان وساعة رمي كل قنبلة منها، ويقدر عدد الضحايا الذين سقطوا نتيجة العمليات العسكرية التي شنتها قوات الولايات المتحدة منذ تأسيس الأمم المتحدة بين 8-30 مليون فرد، أما مجموع ضحايا الحملة ضد الإرهاب التي شملت العراق، وباكستان، وأفغانستان، فبلغ مليوناً وثلاثمئة ألف ضحية، ولم تبق الأوضاع الداخلية في بلدان الديمقراطيات الغربية بعيدة عن تأثير هذا التوجه الإجرامي، ففي الولايات المتحدة، معقل الامبريالية العالمية، يتراوح عدد من يعيشون تحت الخط الرسمي للفقر بين 40-100 مليون شخص، ويعاني العمال من المهاجرين غير الشرعيين الذين تجاوز عددهم ثمانية ملايين شخص من ظروف استغلال مرعبة، وهم مهددون بالترحيل في أية لحظة، لكن السلطات تغض الطرف عنهم بعد أن تحولوا إلى وسيلة ضغط على الطبقة العاملة التي تم تفكيكها من خلال نقل الصناعات الضخمة إلى بلدان أخرى حيث تتوفر يد عاملة رخيصة، ولكن يبدو أن هناك خوفاً كامناً لدى أصحاب السلطة من يقظة المضطهدين، كما نستشف من تصريح الرئيس دونالد ترامب بأن الولايات المتحدة لن تصبح أبداً اشتراكية، وبالتوازي مع هذا، تتعمق الهوة بين مكونات سكان البلاد نتيجة التمييز الذي يطال بشكل خاص ذوي الأصول الأفريقية إلى حد دفع منظمة “أمة الإسلام” القوية التي تزعمها لويس فرقان سنوات طويلة، وكان من أبرز وجوهها مالكوم اكس، إلى طرح مشروع إنشاء كيان سياسي انفصالي، وهذه الفكرة شائعة اليوم في عدة ولايات تمتلك ثروات ضخمة، وتسعى للانفصال عن الاتحاد.
أما في ألمانيا، متزعمة الاتحاد الأوروبي، فلايزال هناك تمييز بين سكان ألمانيا الديمقراطية السابقة، وسكان ألمانيا الغربية، على الرغم من مرور ثلاثين سنة على سقوط جدار برلين، حيث يطلق لقب “أوسي” على سكان الشرق الذين يحصلون على أجور أدنى، وتتاح لهم فرص محدودة للعمل والارتقاء، في حين يهدد الفقر قرابة 12 مليون شخص، بدورها سعت ألمانيا إلى توظيف موضوع المهاجرين للضغط على الاتحادات النقابية من خلال وجود احتياط جاهز من اليد العاملة، وخلال اليومين الماضيين تناقلت وسائل الأنباء خبر صدور قرار بإخلاء شخص ألماني متقاعد من شقته التابعة للشؤون الاجتماعية بهدف إسكان عائلة من المهاجرين، لأنه من منظور رأس المال، لم يعد لدى المتقاعد ما يقدمه، في حين أن عائلة المهاجرين سترفد سوق العمل بعمال شباب قادرين على العطاء لمدة ثلاثين سنة.
وفي فرنسا برزت حركة السترات الصفراء لتعكس حقيقة معاناة شرائح واسعة من السكان الذين يجهدون في سبيل البقاء، ويدفعون الضرائب، في حين يتم إلغاء الضرائب على الثروات الكبيرة، ويسعى رئيس الأثرياء امانويل ماكرون إلى إعادة تشكيل السلطة، بحيث تضمن للرئيس حرية الحركة بعيداً عن ضغوطات الجمعية العمومية، ويمتلك ماكرون رؤية خاصة حول دور أوروبا، وضمن هذا السياق أطلق مبادرة حول دور الاتحاد الأوروبي تضمنت فكرة إنشاء وكالة أوروبية لحماية الديمقراطية تحت حجة إيجاد هيئة مستقلة تراقب الانتخابات، وتمنع التلاعب بالتصويت الالكتروني، وتتحرى مصادر تمويل الأحزاب.
وقبل فترة قصيرة صدر تقرير مؤتمر ميونخ حول الأمن 2019، وتضمن فكرة رئيسية مفادها أن العالم يعيش مرحلة انتقالية بين قيادة واحدة، وعالم متعدد الأقطاب، مع طرح تساؤل حول إمكانية أن تنجز المرحلة الانتقالية بطريقة سلمية، أم أنها ستتضمن مواجهة عسكرية لا يعرف أحد مداها؟.. ورجّح التقرير الخيار الثاني، حيث إن تصاعد الإنفاق على التسليح لا يبشّر بالخير، وتشير إحصائيات معهد أبحاث السلام في استوكهولم إلى ارتفاع نفقات الولايات المتحدة على التسليح من 400 مليار دولار عام 1997 إلى 800 مليار $ عام 2013، لتعود وتنخفض عام 2017 إلى 600 مليار$، في حين تنفق جمهورية ألمانيا الاتحادية 50 مليار$ سنوياً على التسليح، والمذهل أن الإنفاق على التسليح في الولايات المتحدة يتجاوز الإنفاق العسكري في كل من الصين، وروسيا، وألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، واليابان مجتمعة، وهذا وحده يكفي للدلالة على النزعة العدوانية المترسّخة في سياسة الولايات المتحدة، ونحن نشهد اليوم استعدادات جدية لتنفيذ تدخل عسكري للإطاحة بالرئيس الفنزويلي المنتخب، كما نشهد تشديد الحصار الاقتصادي على إيران وسورية، وتصاعد الحرب العدوانية ضد اليمن، ثم نجد أنه لايزال هناك من يراهن على اهتمام حكام الولايات المتحدة بمصير الشعب السوري.
ما من شك في أن امبراطورية الولايات المتحدة صارت على مسار الأفول، وهذا يعني تعاظم النزعة العدوانية بين النخبة المسيطرة التي ستسعى بكل ما لديها من إمكانيات لتأخير هذا المسار، الأمر الذي يحمل في طياته مخاطر تهدد أمن الكوكب بأسره!.