دراساتصحيفة البعث

الحياة الحزبية في المملكة المتحدة تقترب من نهايتها

 

عناية ناصر

قد لا يبدو من الأهمية بمكان خارج المملكة المتحدة استقالة بعض أعضاء البرلمان من أحزابهم السياسيّة للانضمام إلى مجموعة جديدة من “المستقيلين”. فالسياسات البرلمانية في المملكة المتحدة تبدو بعدها غير قابلة للتنبؤ وفوضوية في الوقت الحالي، حيث غادر ثمانية نواب من حزب العمل المعارض وثلاثة من حزب المحافظين -من أصل ما مجموعه أكثر من 600 نائب- وهو لا يشكل زلزالاً سياسياً بالمطلق، ولا يشمل أي أسماء عائلية كبيرة.

ومع ذلك، قد تكون المظاهر خادعة. ففي سياق الاضطرابات السياسية المرافقة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يمكن أن تكون هذه الانشقاقات أحدث الدلائل على أن السياسة في المملكة المتحدة مهيّأة لمزيد من التغيير  بعد أن اعتادت المملكة المتحدة أن تكون نموذجاً للاستقرار السياسي، وهذا هو الأسلوب الذي ما زال معظم البريطانيين -وغيرهم- يحبون التفكير فيه. قد لا يكون لذلك دستور، ولكن مبادئه الأساسية تدين بأصلها إلى “ماغنا كارتا” التي تطوّرت تدريجياً على مرّ القرون منذ ذلك الحين. كانت هناك مؤامرات وانتفاضات، لكنها فشلت. كانت هناك حرب أهلية وثورة، ولكنها كانت أيضاً تصالحية. في العصر الحديث، لم يُجبر أي غازٍ على تجاوز جزر القنال، إذ لم تكن هناك انقلابات عسكرية.

ولكن بعد 23 حزيران 2016، من الصعب التسليم بأن الاستقرار -في المجال السياسي على الأقل- أمر مسلمّ به، إذ تبدو أعمدة النظام الدستوري للبلد أقل موثوقية، وهذا يحدث بثلاث طرق مميزة.

الأولى تتعلّق بالبرلمان. فما يشاهد حالياً هو نتيجة استفتاء -ديمقراطية مباشرة- بمواجهة الديمقراطية البرلمانية، فالتوتر بين الاثنين هو أحد الأسباب التي تجعل من الصعب جداً على رئيسة الوزراء ضمان الأغلبية لصفقة الخروج التي تفاوضت فيها مع الاتحاد الأوروبي. والمشكلة الأساسية هي أنه عندما صوّت أغلبية الناخبين في جميع أنحاء المملكة المتحدة على مغادرة الاتحاد الأوروبي، كان أغلبية أعضاء البرلمان، من جميع الأحزاب السياسية، لو ترك الأمر لهم سيفضّلون البقاء. فهل سيخضعون “لإرادة الشعب”، أم يصوتون وفقاً لحكمهم الخاص، وهو ما يتمّ انتخابهم للقيام به في النظام البريطاني. كثيرون يختلفون بصدق وبعمق حول أين تكمن واجباتهم.

والثاني لا يقلّ أهمية عن ذلك وهو يتعلق بوحدة المملكة المتحدة. إذ لم يحدث أي تغيير في تكوين المملكة المتحدة منذ تقسيم أيرلندا الذي بدأ مع يوم عيد الفصح عام 1916. في عام 2014، فكرت اسكتلندا ورفضت الاستقلالية بهامش 10% واعتبر السؤال مفتوحاً.

لكن في غضون عامين، أعاد الاستفتاء الأوروبي طرحه، مما أدى إلى نتائج مختلطة تخوّف كثيرون منها، فقد صوّتت اسكتلندا وأيرلندا الشمالية بأغلبية واضحة للبقاء في الاتحاد الأوروبي، في حين صوّتت إنكلترا، وبهامش أقل في ويلز، على المغادرة. الآن، ليس فقط مسألة الحدود الأيرلندية أصبحت عقبة رئيسية أمام الاتفاق مع بروكسل، لكن تصويت أيرلندا الشمالية وضع مسألة أيرلندا الموحدة مرة أخرى على جدول الأعمال.

مع الاستفتاء الثاني على استقلال اسكتلندا الآن، ليس من غير المعقول التساؤل عمّا إذا كان الثمن النهائي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو خسارة أيرلندا الشمالية أو حتى تفكك المملكة المتحدة. ولكن الأمر لا يتعلق فقط بالديمقراطية البرلمانية أو وحدة  المملكة المتحدة التي تتعرّض للاهتزاز في أعقاب التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بل يمكن أن يكون الآن -ثالثاً- أيضاً تغيّر السياسة الحزبية، وهنا تكمن أهمية الاستقالات في الفترة الأخيرة.

في وقت إجراء الاستفتاء الأول في المملكة المتحدة على عضوية الاتحاد الأوروبي (السوق المشتركة)، كان المشهد السياسي مختلفاً. لقد كان حزب المحافظين مؤيداً لأوروبا، وكان حزب العمال هو الحزب المناهض لأوروبا. هذا إلى حدّ كبير عندما جاء جيريمي كوربين، الذي أصبح الآن زعيماً غير متوقع من حزب العمال وأحد الخصوم من الطراز القديم، في السياسة الوطنية.

مع ذلك، ينقسم كلّ من حزب العمال وحزب المحافظين حول الاتحاد الأوروبي. فقد قام نواب من كلا الحزبين بحملة على كلا الجانبين، وأظهرت النتيجة في انكلترا أنصار المحافظين والعمال في المناطق الريفية الذين يميلون إلى التصويت على “المغادرة”، في حين أن أولئك الذين يعيشون في مناطق حضرية أكثر ازدهاراً وعالمية من كلا الحزبين يميلون “للبقاء”. كانت المواقف من الاتحاد الأوروبي أعمق من الولاءات التقليدية للحزب.

طالما كانت أوروبا مجرد واحدة في العديد من القضايا السياسية، فإن هذه الانقسامات داخل الأحزاب كانت تخضع لأولويات أخرى، ويمكن الحفاظ على وحدة الحزب. لكن عندما أصبحت أوروبا القضية، أصبح كل شيء أكثر تعقيداً. وهو تعقيد يتضاعف الآن، لأن أعضاء من كلا الحزبين الرئيسيين قد تحولوا إلى اليسار واليمين على التوالي، تاركين أعضاء البرلمان في الوسط بشكل غير مرتاحين في الوسط. إنها ليست مجرد مسألة “البريكست” فحسب!.

النواب الثمانية العماليون والثلاثة من المحافظين الذين أعلنوا استقالتهم من حزبيهم، كلهم ​​من الوسط السياسي، وخلافاتهم مع حزبهم تتجاوز أوروبا، فأولئك من حزب العمال يعتبرون كوربين أبعد ما يكون عن مزاجهم، في حين أن أولئك من المحافظين يقولون إن الحزب قد ذهب بعيداً جداً إلى اليمين، وأن  تيريزا ماي أضعف من أن تمنع ذلك.

يقول البعض إن آخرين يمكنهم الاستقالة من الحزبين، وفي هذه الحالة، يمكن أن تنمو المجموعة المستقلة الجديدة، كما يطلقون على أنفسهم، وقد تشكّل نواة حزب وسط جديد. يمكن أن يكون ذلك بداية لعملية إعادة تنظيم كاملة لسياسة المملكة المتحدة، مع وجود حزب عمالي قويّ إلى اليسار، وحزب محافظين أكثر يمينية. قد يكون استيعاب بعض أعضاء الحزب المستقل البريطاني، وحزب وسط متحالف إما مع أو منفصل عن “الديمقراطيين الليبراليين”. بالنسبة للبعض، قد لا يكون تشكّل نظام حزبي أشدّ قسوة شيئاً سيئاً، فهو ينشط السياسة وينتج حكومات ائتلافية أكثر أوروبية.
ومع ذلك، من المفترض أن يكون هناك طريق طويل قبل أن يصبح ذلك واقعاً. حتى في الأيام القليلة الأولى، وجدت المجموعة المستقلة صعوبة في تقديم برنامج موحّد بخلاف كونها وسطية وموحدة في تأييدها للاتحاد الأوروبي، ونظام التصويت في مرحلة ما بعد الانتخابات يجعل من الصعب على الأحزاب الجديدة الفوز بمقاعد البرلمان. هناك سابقة للحزب الديمقراطي الاجتماعي كانت بمثابة تحذير، فهو تأسّس في عام 1981 من قبل لوردات العمال، بمن في ذلك ديفيد أوين وشيرلي وليامز، لكن لم يستطع الاستمرار أكثر من سبع سنوات قبل الاندماج مع الحزب الليبرالي، ليصبح حزب الديمقراطيين الليبراليين، إذا كان هناك من إرث، فقد يكون حزب العمال الجديد تحت قيادة توني بلير.

ومع ذلك.. في حين أن عدد الاستقالات من الحزبين الرئيسيين قد يكون ضئيلاً حتى الآن، إلا أن القوى التي تسبّبت بتشكل المجموعة المستقلة قد تكون أقوى وأكثر قوة من تلك التي أدّت إلى إنشاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي. هذا جزئياً، لأن المناخ السياسي العام يشير إلى خيبة الأمل من الوضع الراهن. ولكن ذلك يرجع أيضاً إلى أن البريكست كشفت عن فشل هائل في نظام الأحزاب الحالي.

القضية الكبرى المطروحة هي البريكست، إذ تمّ تقسيم البلاد من 52 إلى 48 في المائة في الاستفتاء، وتبعاً لاستطلاعات الرأي، تبقى الكفتان متساويتين اليوم تقريباً. لكن نظام الأحزاب لا يعكس هذا التقسيم. في الانتخابات الأخيرة في عام 2017، لم يكن من الممكن التصويت لصالح حزب مؤيد أو مناهض للاتحاد الأوروبي، حيث كان كلّ من حزب العمال وحزب المحافظين واضحين. وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت التصويت في البرلمان حول “صفقة المغادرة” مفتوحاً للغاية وغير قابل للتنبؤ، والتي جعلت من الصعب على تيريزا ماي الحصول على الأغلبية.

لقد أظهر البريكست الصراعات داخل المملكة المتحدة، كما في الصراع بين الديمقراطية المباشرة والديمقراطية البرلمانية. كما أظهر اختلافات حادة في المشاعر بين المناطق ضعيفة الارتباط التي يمكن أن تؤدي، عاجلاً أم آجلاً، إلى تفكك المملكة المتحدة، والآن يتسبّب في تشتيت الأحزاب السياسية التقليدية. وإذا تسارعت هذه العملية، فإن السياسة الحزبية في المملكة المتحدة كما كانت موجودة منذ نحو قرن، يمكن أن تقترب من نهايتها أيضاً.