دراساتصحيفة البعث

قنابل ترامب الدخانية

د. فريد حاتم الشحف

لا شك أنّ المواقف المثيرة الصارخة الأخيرة، التي صدرت عن الرئيس الأمريكي ترامب وإدارته، و آخرها “الاعتراف” بسيادة الكيان الصهيوني على الجولان، والتي أربكت الحلفاء قبل الأعداء، ليست ظاهرة طبيعية في سياسات الولايات المتحدة المعهودة، وهي ليست خارجة عن أيّ إطار أخلاقي وقانوني وشرعي فحسب، بل تفتقد لأدنى مقوّمات النجاح أيضاً. فما هي الدوافع الحقيقية لهذه المواقف؟

لو عدنا قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى ما قبل انتهاء ولاية باراك أوباما، الذي جيءَ به إلى البيت الأبيض بعد فشل الإستراتيجية الأمريكية في الحرب على الإرهاب،  وهزيمة الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وأخيراً في لبنان عام 2006، كي يعيد ترتيب الأوراق، وتبدأ معه الولايات المتحدة إستراتيجية جديدة تعيد لها هيبتها، أملاً في تمكنها من البقاء على هرم النظام العالمي، ومنع أي ظهور منافس لها، كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية.

كانت خطط “الثورات الملوّنة” و “الفوضى الخلاّقة”، هي المكمّل لإستراتيجية الحرب على الإرهاب، وبخاصّة في الدول التي يصعب التدخّل عسكرياً بشكل مباشر فيها، وتتمتّع قياداتها بشعبية واسعة داخل دولها.

لذلك، وقبل انتهاء ولاية جورج بوش الابن بدأ التحضير لما يسمّى الربيع العربي، بحيث يكون الاعتماد الأساسي على الإنترنت والفضاء الافتراضي، ودُعيَ الناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي الذين لهم ميول معارضة، إلى الولايات المتحدة وصربيا، لإجراء دورات مكثّفة على كيفية استخدام الانترنت، وتجاوز الرقابة، وإنشاء مجموعات شبابية معارضة، وكيفية اختيار الشعارات التي يجب طرحها كي تكون جذّابة لحشد الشباب المعارض.

كانت أمريكا بحاجة إلى حرب في المنطقة، حرب لا تشارك هي فيها، بل تلعب دور المراقب والمتحكم عن بعد، كي تتمكن فيما بعد من تقسيم دول المنطقة، وخلق الشرق الأوسط الجديد الذي تطمح إليه هي والكيان الصهيوني.  لذلك وعندما بدأ  ما يسمّى بثورات الربيع العربي في الدول التي تدور في فلكها، حرصت على إيصال “الإخوان المسلمين” إلى السلطة، لأنّهم أكثر قابلية على شن الحروب من غيرهم من القوى السياسية في المنطقة. وهذا ما حصل في  تونس ومصر، وكانت قد ساعدت أردوغان زعيم “الإخوان المسلمين” في تركيا من قبل للوصول إلى السلطة.

لكن وبعد صمود سورية جيشاً وشعباً وقيادةً، وبمساعدة القوى الحليفة، اقتنعت الولايات المتحدة بفشل مخططاتها، وعدم تمكنها من إسقاط سورية، وبالتالي محور المقاومة.

ولمواجهة سورية ما بعد الانتصار على الإرهاب، كان عليها إعادة الاستقرار لدول المنطقة التي تدور في فلكها. هذا يعني إعادة العسكر إلى السلطة في تركيا ومصر، وإبعاد “الإخوان المسلمين” عن السلطة في تونس.

شعر أردوغان بالخطر، بعد نجاح المخطط في تونس ومصر، وأخذ يقمع المظاهرات التي نزلت إلى الشوارع تطالب برحيله بشدّة، وأقفل المحطات التلفزيونية غير الموالية، وأودع الصحفيين السجون، وطرد الآلاف من وظائفهم بحجج مختلفة. وهو يدرك تماما أن أمريكا متغلغلة بنفوذها داخل الجيش، وأنّه عاجلاً أم آجلاً سيتحرّك ضدّه. لذلك افتعل مسرحية الانقلاب العسكري، وطرد على إثره المئات والآلاف من الضباط، وعيّن الموالين له في قيادة الجيش.

كل ذلك أثار مخاوف “إسرائيل” والأنظمة العربية التي وضعت كل ثقلها ورهانها على سقوط سورية، وبالتالي إضعاف دور إيران ومحور المقاومة في المنطقة.

ثم أتى الاتفاق النووي الذي وقعته الولايات المتحدة مع إيران، ليزيد من مخاوف الكيان الصهيوني، الذي أدرك جدّية قرب زواله، بعد الانتصارات التي حققها محور المقاومة في المنطقة، وتعاظم قدراته العسكرية بعد الانتصارات الكبيرة التي حققها في حربه على الإرهاب في سورية.

لذلك، كان على ترامب الذي تم ترجيح انتخابه في اللحظات الأخيرة، أن يقود مرحلة انتقاليّة، يعيد فيها صنّاع القرار حساباتهم بعد فشل المخططات الأمريكية- الصهيونية في المنطقة وحول العالم، ليعدّوا إستراتيجية جديدة تتناسب وتطورات الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية على المستوى الدولي، وأن يعمل فيما يخص منطقتنا على تنفيذ مهام عدة أهمها: متابعة استثمار “داعش” والعمل على إطالة الأزمة في سورية والعراق، وتعطيل عملية إعادة الإعمار قدر الإمكان، وتهدئة القلق الصهيوني وتطمين الرأي العام داخل الكيان أنّ الولايات المتحدة لن تتخلّى عنه – تجلّى ذلك من خلال الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وصفقة القرن التي ولدت ميّتة، والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، وأخيراً الاعتراف بسيادة الكيان على الجولان السوري المحتل- ، واستنزاف الأنظمة الخليجية العربية مادّياً لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها أمريكا، مقابل وقوف الولايات المتحدة إلى جانبها، ومساعدتها في مواجهة ما يسمى “الخطر الإيراني” وهذا تجلّى أيضاً في حصول أمريكا على مئات مليارات الدولارات، ودعوتها لإنشاء تحالف لمواجهة إيران، ومساندة السعودية والإمارات في حربهما على اليمن، وأخيراً محاولة استيعاب تركيا، ومنعها من الدخول إلى الفلك الروسي والإيراني وتجلّى ذلك بموافقة أمريكا على إقامة المنطقة العازلة التي طالما وقفت ضدّها، وإعطائها الضوء الأخضر في شمال سورية، واتخاذ إجراءات توحي بتخلّيهم عن حلفائهم في المنطقة، ووقف الدعم العسكري لهم.

الواضح جداً أن سورية انتصرت على الإرهاب، وستستعيد قريباً فرض سيطرتها على كامل أراضيها، ومحور المقاومة صمد، وهو وفي حالة تقدم وتطور مستمرين، بمساعدة روسيا والحلفاء الآخرين. وأنّ المخططات والمشاريع الأمريكية- الصهيونية في المنطقة قد فشلت فشلاً ذريعاً، وأمريكا في حالة تراجع مستمرّة، ونهاية الكيان الصهيوني أصبحت قريبة أكثر مما نتصوّر. لذلك مهما أعلن ترامب، وصرّح وصادق لن يكون ذلك أكثر من قنابل دخانية تغطي فشل وتراجع دور الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وحول العالم.