الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

فقُد الحياة..!

 

حسن حميد
لا أدري، على وجه الدقة والضبط لمن هذه المقولة التي أفزعتني حين قرأتها وأمعنت النظر فيها: بعض الناس يموتون في عمر الثلاثين سنة، ويدفنون في عمر الثمانين سنة! قولة راعبة، أشبه بالمرآة التي يواجهها المرء كيما يقول لصورته: مرحى! أو يعدّل من سلوكه، ويزيل عنه ما علق به من أغلاط، أو ما لحق به من شائنات! والحق أن هذه القولة تشير إلى التجريب، ذلك لأن بعض الخلق نستطيع أن نحكم على مجرى حياتهم طوال الثلاثين سنة الأولى من أعمارهم، فنقول توصيفاً لهم إن الموهوب موهوب، وسيضايف إلى حياته، عبر موهبته، أموراً كثيرة، تماماً مثلما تفعل الأنهار البهيجة، وعبر الضفتين، فتضيف للنبات، والأشجار.. القرى التي هي صورة الحياة الأولى، وصورة الاجتماع الأول.
أرعبتني هذه المقولة لأن أدباء وفنانين وكتّـاباً ينشطون في تثمير حياتهم الإبداعية حتى الثلاثين من أعمارهم، ثم يتوقفون عبر تكرار واستعادات ودوران حول ما فعلوه من دون أن يتفطنوا إلى أن الإبداع مضايفة وجدة لا دوران أو تكرار، وهذا بالضبط ما عنته هذه المقولة من أن الناس في الثلاثين من أعمارهم هم أمام خيارين، إما يورقون إبداعياً، وإما يدفنون الموهبة مبكراً.
وهذه المقولة مهمة لأن فيها معاني الحراسة والرعاية للموهبة لكي لا تتراجع، أو تتوارى، أو تذبل في عمر الثلاثين، فتصير السنوات اللاحقات اجتراراً وإملالاً وبهوتاً وتعبيراً جريئاً عن موت الموهبة!
والمقولة ذاتها لا تعني أهل الإبداع والأدب والتعبير الفني والثقافة وحدهم، بل تعني حياة الناس عامة فتشير إلى أن السلوك يتبلور ويتجلى في الثلاثين سنة الأولى من حياة الفرد، فتبدو دروب الفرد وصورته، كما تبدو نباهته من عدمها، وتبدو غاياته عبر مواقفه وسلوكياته، كما تبدو لهفته نحو ضفة الخير وانشداده إليها من عدمها، بل، وتبدو ترسيمات روحه وهي تمشي في مسالك الشر والمخالفة والنكوص عن كل ما هو نبيل وجميل وأهيف، فتغلب روح المغالبة والمنافسة المشحونة بالتحييد والإقصاء والطي في الحال الثانية، وبذلك تقطف النفوس غاية من غايتين، إما الطيبة وطيوفها، وإما الوغدنة وطيوفها.
وفي النظرة الأعمق لهذه المقولة، يتحصّل المرء على حكمة فحواها أن حقل التجريب، والأغلاط، وعدم التوازن والتبصر، والإفراط في الأنانية وحبّ ما لا يحب عادة، والظن بما لا يظنُّ به عادة، والاندفاع الغريزي إلى ما لا يندفع العقلاء نحوه عادة، من الممكن أن تبدو رقعه الشائهة، على نحو جلي في سن الثلاثين، وهنا على المرء أن يغيّر المسار، وأن يطوي تلك الأفكار الشيطانية، والسلوكيات الضريرة، وأن يرتد نحو الضفة الأخرى، لأن الضفة التي جال فيها حتى سن الثلاثين لم تفضِ إلى النور الذي لا تبديه سوى نظرات الآخرين، واجتماعهم.
قلت كل هذا لأشير إلى أن الإمعان الأعمى في دروب اللامحبة، وهي دروب وعرة، طوال الثلاثين سنة الأولى من عمر الفرد.. كفيلة بأن تحدد هوية الفرد، وصفاته الشخصية، وكفيلة بأن تنضج حواس الفرد، فيحسّ، ويرى، ويسمع، ويتذوق طعوم الأفعال على وجهيها: المر والحلو. كي يمحو دروبه الوعرة ويحيدها، وكي يمشي في الدروب التي تليق بها معاني النبل، ذلك لأن المفزع يتجلى في أن يقبل الفرد بفكرة /التدمير/ على اختلاف توجهاتها، التدمير للآخر، وللقيم السامية، والتدمير للمكان، والتدمير للأفعال والأحلام، هذا القبول سيؤدي إلى تدمير الذات نفسها حين تقفز هذه الذات عن جوهر الحياة ومعانيها وغاياتها من أجل المراجعة في عمر الثلاثين سنة، وفي هذا كله خسارة ما بعدها خسارة للمجتمع لأن الحياة ستكون بلا ألوان، بلا زهو، بلا نبل، وهذا فقدٌ لا يعادله فقدٌ عرفته الدنيا، وذاقت طعومه!
Hasanhamid55@yahoo.com