اقتصادصحيفة البعث

سلع وأسواق تختفي قسرياً لتظهر أخرى!الجوال أسهم في تراجع مبيعات الساعات والحاسبات والمنبهات بنسبة 70%

 

 

لم تعد المبيعات كسابق عهدها… مشاهير كثر اعتادوا -فيما مضى- ارتياد هذا المحل لشراء الساعات والمنبهات والآلات الحاسبة، اليوم قد تمضي أسابيع عديدة لا نبيع فيها مثل هذه الأشياء، يقول بائع مسن عمل في تجارة هذه السلع في منطقة المرجة وسط دمشق.. ومثله يشكو بائع آخر في سوق الحلبوني الشهيرة، يقدر تراجع مبيعات الحاسبة بنحو 70 بالمئة، فالزبون – برأيه- لم يعد مضطراً لاقتنائها، في وقت تكفل الجوال بهذه المهام، وأخرى كثيرة تتسابق الشركات الصانعة لتقديمها وتطويرها باستمرار..
ليست هناك من سلعة مبتكرة إلا وتتقادم، بمعنى ما إن تشتهر السلعة وتوسع حصتها في الأسواق حتى تأتي أخرى جديدة أكثر حداثة وأعلى مزايا لتطردها من هذه الأسواق، أو أن تتعايش السلعتان، ولكن إلى حين.. فالتقدم التقني المذهل سرعان ما يقوض أسس هذا التعايش.. فكيف تظهر سلع وتختفي أخرى؟ لنرَ..
في البدء كان البريد..
البريد بورقه ورسائله هو الوريث الشرعي للحمام الزاجل، أقدم أشكال توصيل الرسائل، فعبر هذه الرسائل نقلت أسرار القادة والحكام، وبثت أشواق العشاق والأحباب لقرون خلت، ولكنّ شيئاً بدا وكأنه سحر عرف بالبريد الإلكتروني ((إيميل))، أحدث ثورة هائلة في عالم المراسلات، وهكذا حلت كبسة الزر محل سائق الدراجة وحقيبته العتيدة، لم تعد هناك حاجة للانتظار على الأبواب وعند الشرفات، بل أمام شاشة الحاسوب، وتالياً شاشة الجوال. لقد جرد البريد الجديد نظيره القديم من أغلب مزاياه، بل دفعه لأن يبحث عن فرص وخدمات جديدة تمكنه من التصدي لصراع البقاء..!
أربعة في واحد..
لسنين طويلة احتفظ الهاتف بأداء ومكانة أسطوريين، ولم تكن تلازمه خدمة أخرى، ثم أتى إرسال الأوراق اعتماداً على الهاتف، فظهرت المراسلة عبر الفاكس، فيما بعد أضيفت إليهما خدمة تصوير المستندات، وصولاً إلى آلة تقدم هذه الخدمات مجتمعة، أي ثلاثة في واحد، قبل أن تضاف إليها تقنية رابعة، ويدخل الماسح الضوئي ((سكانر)) على الخط، وتصبح المعادلة من جديد أربعة في واحد..
إمكانات بلا حدود..
جهاز الجوال (أتى بما لم تستطعه الأوائل)، كما يقول المعري، فقد وفر هذا الجهاز العجيب للمستخدمين تقانة غير مسبوقة وغير معدودة، فهو يتصل.. يصور.. يسجل.. يحسب.. ينبه.. وغير ذلك الكثير.. الكثير.. حتى إن خدماته المبتكرة – كما أجياله باتت تدهشنا بشكل يكاد يكون شبه يومي – أخذت تضغط على المنتجين لتقديم ابتكارات تسابق الزمن، لقد أصبحت قاعدة المنافسة الأولى بين هؤلاء (من لا يتقدم يتقادم)، بدليل أن شركة الهواتف النقالة الفلندية العملاقة ((NOKIA))، والتي خدماتها في صناعة الهواتف النقالة فيما يقارب 150 دولة حول العالم، مع أرباح تجاوزت 30 مليار يورو سنويًّا، وظلت تسيطر على سوق الهواتف النقالة لما يقارب 20 عامًا تقريبًا، لم تستطع أن تجاري منافسيها في بعض جوانب هذا التطور، فانهارت وخرجت من السوق التي قادتها وتصدرتها المجموعة الكورية العملاقة ((SAMSUNG))، عبر تشكيلة هواتفها المذهلة ((GALXY))، وقد تأتي شركة أخرى لتكسب جولة جديدة من المنافسة، إنها الأسواق حيث الصراع دامٍ على مستوى اقتناص الفرص وتقاسم الحصص!
أسواق تنشأ وأخرى تتآكل..
تطور التقانة واستحداث أجهزة جديدة، ليست كل المشكلة، بل إن الأسواق تتضاءل وتتآكل أمام بروز أسواق جديدة، تكسب الجولة وبالضربة القاضية غالباً؛ فسوق الموكيت وفرش الأرضيات نمت على حساب سوق السجاد التقليدية، والسيراميك على حساب البلاط، والإنارة الليزرية على حساب نظيرتها التقليدية، ومنجور الألمنيوم على حساب الخشبي، وهكذا..
ولا تكمن المشكلة في اختفاء وظهور سوق جديدة وحسب، بل في خروج منظومة المهن والحرف وقطع الغيار والصيانة من التداول؛ ما يستدعي بالضرورة فقدان جيوش من العاملين والفنيين والحرفيين لمصادر رزقهم، إلا من نجا واستطاع التكيف مع التقانة المستجدة، فمثلاً عندما تقدم الموكيت المعتمد بشكل أو بآخر على المشتقات النفطية على حساب السجاد المعتمد على الصوف والقطن، فإن الضرر يطال المناسج والأنوال والصباغة، كما يطال منتجي الصوف والقطن من مربي الأغنام والمزارعين؛ لأن الضرر في أي من حلقات الإنتاج يعني أضراراً للحلقات الأخرى ذات الصلة..
تبعاً للمهنة وللقطاع..
لا يستطيع أحد إنكار تأثير تلك التغيرات التقنية المتلاحقة، ولكن من الخطأ تعميم نتائجها من دون النظر لطبيعة المهنة وخصوصية القطاع..يقول الدكتور محمد السقا خبير إدارة الأعمال، الذي يرى أن الصحافة الإلكترونية فازت على نظيرتها الورقية، وأصبحت أكثر قبولاً لدى المتلقين، وحلت برامج التصميم الإلكتروني في قطاع هندسة العمارة والديكور محل التصميم التقليدي بشكل شبه كامل، فيما تراجع دور الطبيب لصالح الأجهزة الطبية الحديثة بنسبة 60 بالمئة، أما الحلاق فحافظ على وجوده الفيزيائي.
ويشير السقا إلى وجه آخر من أوجه هذا التأثير، ذلك أن التقانة الجديدة تمثل العدو اللدود لسوق العمل؛ فهي تقلل الاعتماد على العامل لصالح أنظمة الأجهزة الحديثة، فمثلاً التوسع في استخدام السيارات ذاتية القيادة سيحد من الطلب على السائقين، والتعليم الافتراضي سيقلل الطلب على الأساتذة الجامعيين، فالمدرس بات يشرح الدرس لتلاميذه في قاعة دراسية واحدة (فيزيائياًَ)، فيما تتفاعل مع هذا الدرس عديد القاعات الأخرى (افتراضياً)، ولهذا ما له من تأثير على تجهيز القاعات وفرشها وتأثيثها، وعلى كل الصناعات والقطاعات المرتبطة بقطاع التعليم..
أحد مبررات التحديث والتطوير..
تنفق الشركات مليارات الدولارات عـلى أقسام وإدارات التحديث والتطوير لديها (Research & Development).. ثمة عديد المبررات لهذا الإنفاق، ولكن الأكثر رواجاً – كما يقول الدكتور سعد بساطة استشاري الأعمال – هو أن السلعـة ضمن دورة زمنية معـيـّنة تصبح قديمة بحاجة لتحديث!.. الغـسالة، على سبيل المثال، تكون آخر موضة، وتبقى كذلك بضع سنوات، ثم تتقادم.. تظهر غـسالة أصغـر حجماً، أقل استهلاكاً للكهرباء والماء ومساحيق الغسيل، ذات ضجيج أقل، وسرعـة أكبر، ذات ألوان أكثر جاذبية وبانسيابية مغرية..!
هذه الدورة ( Cycle ) -وفقاً لبساطة- تختلف من سلعـة لأخرى؛ فهي سنوية بالنسبة للسيارات، ونصف سنوية للحاسوب، ربع سنوية للجوال، وبالتالي فإن للسلعـة عـمراً، بانقضائه تصبح منقضية المفعـول..! ما يخلق سلعاً وأدوات جديدة؛ تحل محل القديمة، فكمبيوتر المكتب (Desk top)، حل مكانه اللابتوب، وكبين الهاتف أضحى من التاريخ بعـد اختراع الجوال؛ وكذلك رسائل البريد بطوابعـها الزاهية حل مكانها البريد الإلكتروني.. مبيناً أن الآراء حول سبب هذا التغـيير تختلف وتتفاوت.. هل هو لتشغـيل المصانع ومؤسسات الترويج وحوانيت البيع، أم هي سنة الكون..؟! ولكن مثلما أن لكل زمان دولة ورجالاً، فإن لكل عـصر سلعـه وموديلاته..
أحمد العمار