ثقافةصحيفة البعث

زمن محمود درويش

أحمد علي هلال
اليوم العالمي للشعر، ذاكرة أخرى للمسكونين به، هاجساً يصنع الجمال ولا يكتفي، لكنه الجمال المقاوم لقبح الأرض، جمال فرح المعنى الذي يكثف كينونة البشرية ووهج حساسيتها للحياة، ولعل زمن محمود درويش الذي كان ولم يزل زمن دهشة اللغة في أعاليها، وزمن دهشة البلاغة الحارسة للمعنى، تلك التي تقرّت نيراننا المطفأة، ذلك العابر –محمود- للأزمنة والخطابات وللأمكنة، من البروة إلى القدس إلى دمشق وبيروت، ليجعل من خصوصيته عالمية أخرى استطاع من خلالها أن يفجر لغته لترقى إلى الحدوس وإلى غنائيات الروح المصفاة، لكنها في نسيجها غنائيات الأرض والإنسان والتاريخ والذاكرة والوجود، فكيف إذن نستدعي تلك الذاكرة التي فاضت في يومياتنا المترعة بالحزن النبيل، بين يدي المعاني والدمعة تلك الغيمات الباسقات اللاتي ظللن ينسجن قمصانهن لحفاة القلوب والأرواح، وسدنة الجمال في عالمنا الكالح، ليظل أكثر قدرة على تحسس احتمالات الجمال وممكناته الإنسانية، ولعلنا في يوم الشعر العالمي سنقرأ مدونة الشعر العربي كثيراً أو قليلاً، ونأخذ منها ما يعيننا على قراءة لحظتنا، تلك صيرورات لشاعر اليوم، الذي ظل يخيط السحاب ويلونه في سطوره، ويذهب مطمئناً إلى ينابيع الرؤيا دون أن يتعثر بحجر البكاء، ليصير أخضر الوقت في أزمنة أحلامه القادمة، أزمنة توثب الأرواح، أبعد مما تصل إليه الرماح العاليات، تلك جدلية الإنسان بوصفه كائناً ثقافياً بالضرورة، وثقافته هي في كينونته التي يعثر عليها، كمن يعثر على نجمة واحدة لكنها مجاز النجوم في سماء كثيرة الصحو، هو الشعر إذن وأفعاله المنشودة بوصفه مجاز حيوات كثيفة عُلقت على شغاف الغواية، وهي اللانهائية فلن نعدها وحسبها أنها تبتدئ لتشي بكل مضمراتها ومروياتها ومحكياتها العليا، لتصبح كما أناشيد الصباح طازجة بما يكفي، ونقية لتتخلق منها سير فطرية ومركبة، لمن ظلوا هنا.. أو هناك، كما حشد الاستعارة في قصيدة عالية، لعلها استعارة البدايات الطليقة التي تقول هنا يولد الشعر كمكان وكحروف أبجدية تعالق بها التاريخ وانبسطت لها أسارير الجغرافيا، وظل طباقها قائماً بمشيئة اللغة العارفة، هنا الشعر إذن في مسافته للحياة ولما يضوع في جنة المعنى من عطر يعلن فجر الأبدية، إلى المسكونين بالشعر وبميلاد سنبلة لا تجف حبوبها، وبميلاد نهر حفر جداوله، هي ذي أسماؤكم الواضحة فاكتبوا ليكون الخلاص صوتاً صارخاً في البرية، ومازلتم على قيد الحلم لتسكنوا العالم شعرياً، وتقيموا في إثر المعنى، تلك إقامة أبناء الحياة الذين أصبح الشعر أسلوب حياتهم وحضوراتهم المشعة من زمن إلى زمن، ومن انخطافة إلى أخرى يتطير فيها القول إلى استعادة الروح كلما أوشكت على الذهاب، يقول محمود درويش: «ذلك الملح من أثر الدموع»، ويذهب فرحاً إلى جمالياته القصوى، لا ليعلّم الشعر للآتين، أو الخارجين من معطفه، بل ليكتب بالأثر سيرة المهجوسين بالحياة عمراً فعمراً، ولتصبح مجاز تلك الأعمار كل يمام البيوت والشوارع العتيقة الذي لا ينام، بل يطوف في الجهات/ جهات الروح في إثر قصائد تولد مع شمس الصباحات، فهي الجديدة تحت هذه الشمس، هكذا نأتي إلى دروس الشعر وهي تعبرنا لتكتبنا، كالأناشيد السماوية فهي من تطل على ما تريد، كارتعاشة اللحن في يد العازف تكون القصيدة، كالانتظار الرجيم تكون القصيدة، وحيثما تكون القصيدة وعد بالجمال وأكثر تكون الأرواح هنا، مشدودة على وتر الحكاية، إذ تآخي كل ظلالها لتجترح من مستحيلها زمن الدهشة… زمن محمود درويش هو زمن الشعر وأكثر، ليتسع لصهيل الحالمين، ويذهب إلى المرئي كشفاً، ويدون الممكن فلا نهائي حين يأتي زمن الشعر.