الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

عابرو الأهمية!؟

 

 

 

د. نهلة عيسى

أفكر في هذه الأيام في تدوين مذكراتي عما عايشته في سنوات موتنا الثمانية حتى الآن, وأتساءل من أين أبدأ؟ هل أبدأ من يومي العادي في حرب باتت عادية: محاضرات لطلبة يكرهون العلم والمعلمين ويرتادون الجامعة هرباً من الجندية, ومن بيوت يمزقها الخوف من الغد, واجتماعات لمناقشة خطط, كان يجب أن تخطط قبل الحرب, ومؤتمرات للحديث عما بعد الحرب, والحرب تتناسخ ولا تنتهي, ومراجعات ممن يظنون أنني أجترح المعجزات, والمعجزة أنني أحياناً أجترح!! وزيارات أصدقاء يجدون في مكتبي بقايا ضحكات من زمن أرفض أن ينقضي, واتصالات, وكلمات تصطف فوق كلمات, وأحاديث تتزاحم في دهاليز أحاديث, والهراء يعانق الثرثرة, وصبري يربت على ظهر ضيقي, ويدُ أهلاً بيد مع السلامة على سلالم اللسان المتورم ضجراً, والفم حطب, والذقن تدق بالصدر كالبندول, بديلاً عن كلام يتمزق أشلاء على الشفتين, لأن لا أحد يسمع إلا ما يريد, وهذه هي حقاً الحرب!.
أم تراني يجب أن أبدأ من بداية البداية, لأن الحرب تبرز أوراقها الشخصية في كل ما أكتب, وما أقول, وهي أيضاً حافز كل ما أقوم به من فعل, هي سبب في أنني في كل الجبهات, أتناول الطعام مع الرجال في كمائن, عرائشها رصاص, وأسرتها رمال وحصى, وأضحك من قلبي على حكايات رعب يروونها نكاتاً, ثم أبكي أنني ربما في المرة القادمة, لن أرى بعض هذه الوجوه, والغريب أنني أعود من هناك لكي أعيش!؟.
من أين أبدأ؟ والحرب ربما عند معظم الناس, صورة, نشرة أخبار, كمين غادر, وداع شهيد, أما الحرب عندي, فبيت, وجلد, وقهوة صباح, وطلاب يتوسلون السفر إلى بلاد خلف حدود الحدود, ومستشفيات, وملاجئ, وأرامل, ويتامى, وجروح لن يضمدها الزمن, ومنابر أممية يعتليها قراصنة, يمجدون القاتل, وينددون بالقتيل, وأصدقاء يجعلون مني رسول حب محمل بالهدايا لجبهات وحدها الهدية.
من أين أبدأ, والحرب عندي ظل لظلي, روضتها, أم روضتني؟ لا فرق عندي, مادمت قادرة أنا, حتى في ظلها, على أن أكون ألف أنا في كل ثغرة في جدار تحميه بندقية, ومادمت قادرة على نقل دفء قلوبنا إلى صبية على الجبهات, يرون بي رفيق سلاح, وأراهم سبباً لعيشي, ولجر أقدامي الحزينة في شوارع المدينة, أبشر بالنصر, رغم أن الهزيمة تحتل الوجوه!؟
من أين أبدأ؟ ومن كانوا سبباً في خرابنا, مازالوا يتولون خرابنا, ومازالوا يجرمون النبيل فينا, ويلقون بعارهم علينا, ويجبروننا كما في الأيام الخوالي على تجرع حساء الحصى, وكأن الأمس مقيم لا يغادر بلادنا, يجتر فوقنا الأمراض التاريخية لمقاولي وتجار الشعارات الوطنية, والتنظير البائس لمن خانوا, وتجاوزات قبضايات هذا الزمان, الذين يتبارون في عنف مذل بارد غير مرئي على تخاطف أشلاء صبرنا, وخطف إراداتنا, لنتحول الى قطيع مسالم يدفع عن القبضايات ثمن الكهرباء التي يسرقونها, والأغذية والأدوية الفاسدة التي يبيعونها, وأجرة التكسي أو الميكرو التي يفرضونها, والأرصفة التي ندفع نحن (المساكين المنضبطين) ضرائبها ورسومها, وتحتلها سياراتهم ودراجاتهم أو بسطاتهم أو أكشاكهم, أو ورشات بنائهم غير المرخصة!!
من أين أبدأ؟ تراني يجب أن أبدأ من عابري الأهمية أمثالي, والذين يراهم صانعو الخراب عقبات تسد السبيل, ليذكروني ألا أنسى كيف أغضب, وكيف أثور, ولماذا أبقى هنا, وكيف أمنع نفسي من التحول إلى صوت مازوشي في جوقة ترمي على كتف الصدفة أو القضاء والقدر, بالمسؤولية عن كل الجرائم التي تطالنا, وكأنها عقاب إلهي مستحق, ولماذا يجب ألا أتوقف عن الجري خلف الأجوبة الصحيحة عن أسئلة صحيحة مزمنة, كالمشنوق يحتمي بمشنقته, ويتقي بها ساطور الجلاد, ويجد في الشنق أهون الشرين, ليقينه أن الصمت على القبح مساهمة في تنشيط نسله وتناسله, والحياد أمام الفساد هو الوجه الثاني للموت اليومي المفروض, وتستر على النتيجة خوفاً من مناقشة السبب, ولن أتستر!.