الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عِمْ صباحاً أيها الأمل

 

د. نضال الصالح

مِن قبلُ، لم يخلفِ الجليلُ موعداً، ولم يتأخر عن موعدٍ، لكنّه اليومَ فعلَ. حتى الغيمة، أمّي الرؤوم، لم أرها في عليائها كما اعتدتُ، فازدحمتُ قفراً على قفْر، وما إنْ بلغتُ قاعَ القاع من رهَق الروح، حتى تناهى إليّ ترتيلٌ من خلف حجاب: “فإنّ ذلكَ من عزم الأمور”، ثمّ صوتُ الجليل نفسه من حيثً لم أدر: “وبشّرِ الصابرين”. الصبرُ زادُ روحي في شأني كلّه، وكانَ غيرُ شأنٍ في حياتي علّمني أن أعاندَ اليأسَ وأغالبه، حتى يتدحرجَ أمامي مثخناً بالخيبة. وكنتُ، كلّما دهمتني ريبةٌ ببلوغِ آخر الطريق إلى حُلم، أو أمنية، أو هدف، ابتكرتُ من الإرادة ما يعينني على احتمال وطأة المحيط، وأشواك الطريق. أمّا اليومَ، أمّا اللحظةَ، فقد ارتبتُ فيّ، وفيما كنتُ اطمأننتُ إليه، حتى كدتُ أرتابُ في الجليلِ.. في الجليلِ نفسه.
ومن حيثُ لم أدرِ أيضاً سمعتُ: “أردتُ اختبار صبرك، فتأخرتُ”. قلتُ: “وقد عيلَ صبري”. قال: “أفلمْ أوصكَ، ذات هواء فاسد، أنْ تبدعَ هواءكَ؟ ذات ظلمة غاشمة، أن تبدعَ ضوءك؟ ذات قحط فادح، أن تبدع مطرك؟ أولمْ أقلْ مرّة إنْ استحكمَ ضيقٌ، واستبدّ عتمٌ، واستعرَ يباسٌ، فابتكرِ الأملَ.. اخترعه.. ثقْ بقيامةِ الحياة من رماد الرماد”. قلتُ: “أجلُ يا معلّمُ، أجل. ولكن”. ولم يدعني أتمُّ ما تدافعَ في روحي من أسئلة تزاحمتْ فيها وعليها، فقال: “إلا هذه الـ(لكن)، إلاها، فتلك هي عكّازُ العاجز”، ثمّ تابع: “وكانَ أعرابي قال لابنه: يا بنيّ.. ولا أعرِفُ أعظمَ رزيّة ممن ضَيَّعَ اليقين وأَخطأهُ الأمَلُ”.
ونظرتُ فوقي، فرأيتُ غيمتي الرؤوم في مكانها، فاكتملتُ، وما هي هنيهةٌ، حتى تساقطَ قطْرٌ منها، وعندما استوى على الأرض قرأتُ: “إنْ قامتِ الساعةُ وفي يد أحدكم فسيلةٌ فليغرسْها، فإنّ للناس عيشاً بعدُ”، فسألتُ: “أقرأتَ يا معلّمُ؟”، فقال: “قرأتُ، فهل أدركتَ أنتَ القصد؟”. وقبل أن أجيب أضافَ: “ولشاعر من زمانكم: والنَّاسُ شَخْصانِ ذا يَسْعى بهِ قدَمٌ من القُنُوطِ وذا يَسْعَى بهِ الأَمَلُ”. قلتُ: “كأنّه بلسمٌ هذا الباهرُ الأملُ”، فقال: “وإنْ شئتَ فهو شجرةٌ. تعسَ امرؤ لم يزرع شجرة الأمل كلّما نهدَ إلى صباح، ولم يروها، ولم يتعهدها بالنماء، حتى تظلّه كلّما دهمته هاجرةُ روح. اكتبْ”، فكتبتُ:
قلتُ: “وكنتُ قرأتُ يا معلّمُ في كتاب لجدّي أبي حيّان التوحيدي قوله إنّ الأمل والرجاء والمُنى من خصائص القوّة الناطقة”. قال: “فذاكَ هو الحقُّ. اكتبْ”، فكتبتُ: “وكانَ شيخٌ يشبهني أوصى مريداً له يشبهك، فقال: ويا بُنيّ، إنّ الأملَ حياةٌ، وإنّ اليأس موتٌ، ويا بُنيّ إنّ الأملَ وجودٌ، وإنّ اليأسَ عدَمٌ. ويا بُنيّ..”.
وأذكرُ أنني كنتُ أكتبُ، وأنّ الجليلَ كان يُملي. وأذكرُ أنّ الغيمة أغدقتْ فوقي وعليَّ ماءً كأنّه الغيثُ، ثمّ رأيتني أصعدُ من الأرض شجرةً مترفةً بالخضرة.. شجرةً تتباسقُ حتى صدر الغيمة.. صدرها الذي ما إنْ أسندتُ رأسي إليه، حتى نبتَ لي جناحان شاسعان، وكانا، بفرح لا يشبهه فرح، يخفقان في سماء لا تشبهها سماء.