ثقافةصحيفة البعث

بول فيرلين..أمير الشعراء..و”أغنيات لها”

 

القارئ للسيرة الذاتية للشاعر الفرنسي “بول فيرلين”-1844-1896-سيلاحظ أنه أمضى طفولة سعيدة، هانئة، على العكس من صديقه الأثير “أرثر رامبو”-1854-1891-، الشاعر الذي كان له تأثير كبير على تلك المرحلة، منتصف القرن التاسع عشر، عندما كانت مراجل النهضة الأوروبية تغلي وتفور بما ترافق وتلك المرحلة من تطورات عمرانية وصناعية شهدتها أوروبا عموما، وبالتأكيد لن تتأخر مدينة الأضواء، في إخراج شعرائها وفنانيها عموما إلى العالم، كما شهدت باريس، المدينة الأقرب لوجدان شعراء تلك المرحلة، حيث كانت فيها بدايته الشعرية الجدية، حينها لم يكن لهو “فيرلين” بالأقلام والأوراق البيضاء، لهو طفل بما يشغله، وهو في سن مبكرة، بل كان بداية تتوثب بين دفتي صدره الذي كان بدوره أيضا كمرجل يغلي ولكن بالكلمات والصور الشعرية، بالمواضيع المتنوعة، التي راح شيئا فشيئا يبهر فيها القراء والشعراء على حد سواء، وبدأت الصالونات الأدبية، والتي كانت موضة ذاك الزمان، تصبح وعلى نحو متزايد،ملتقى للشعراء من كل أنحاء العالم، فيها يتم إعلان ولادة شاعر أو روائي أو أديب ما، إلا أن الشعر الحر الذي كانت له السطوة الأهم على مشاعر “فيرلين” ومعظم شعراء تلك الفترة في أوربا، هذا الازدهار الأدبي، خرج منه إلى العالم، شعراء غيروا مفهوم الشعرية وأدواتها والمنطق الشعري نفسه، العالم الآن يتحضر للدخول في مرحلة جديدة، وكان من الطبيعي، أن تصب تلك السياسات بتياراتها المختلفة في إناء الوعي الخاص بكل مبدع، ولم يخرج “فيرلين عن القاعدة المُتفق عليها ضمنيا بين الجميع، حتى لمن هم خارج فرنسا أو ما يجمع عليه معظم الباحثين في الشعر، لتأتي قصائده مكتظة برمزية متقنة، وزخم عاطفي ودعوة مفتوحة للتحرر قولا وفعلا، ولتمتزج أشعاره بالحنين إلى الماضي، وكانت مطبوعة على نحو خاص، في استذكار أيام حياته التي قضاها مع الشاعر “أرثر رامبو” وزوجته “ماتيلد”، الزوجة التي ألهمته العديد من القصائد، بعد أن كان قد اصدر مجموعته الشعرية الأولى، القصائد المأساوية” عام 1870، ويظهر فيها بشكل واضح، تأثره بالشاعر والناقد شارل بودلير-1821-1867- إلا أن حدثا آخر سيغير حياته كلها، فتأثير “رامبو” على حياة “فيرلين” ووعيه وحتى مزاجه الشعري، كان له كبير الأثر، في هجره لأسرته وزوجته، والذهاب برحلة عبثية –كما يمكن وصفها- جاب فيها الشاعران معظم دول أوروبا، خصوصا بعد أن حصل شعرهما على الإعجاب والتصفيق طويلا في العديد من دول أوروبا، إلا أن خلافا حادا سينشب بين الشاعرين، كان منه أن قام “فيرلين” بإطلاق النار على صديقه رامبو، ليسجن بعد أن اشتكى عليه الأخير، ثم خرج منه، عندما قام “رامبو” بالتنازل عن دعوته ضده، لكن المحكمة، كانت قد أمرت بزجه في السجن لمدة عامين، وهناك خلف القضبان، والحياة مع العديد من المجرمين والقتلة وحثالات المجتمع من لصوص صغار وكبار، قتلة مأجورين، وغيرهم، في ذاك المكان البائس، بدأ فيرلين العمل على مجموعة شعرية جديدة “في الزنزانة الانفرادية”، وبعد حصول زوجته على الطلاق وخروجه من السجن، انصرف عن إكمال تلك المجموعة، وعمل على استبداله بديوان “الحكمة”، بعد خروجه من السجن، وذهابه إلى إنجلترا، حيث خطّ أولا “الرومانسية غير المشروطة” 1874، ومن ثم “الحكمة” 1880.
اكسبه “ديوانه “الملعونون” في طبعته الأولى والثانية، شهرة ذائعة الصيت، وتم اعتباره رائدا ورمزا للشعراء الرمزيين أصحاب النزعة التحررية، قام بجمع قصائده القديمة، ليصدرها في مجموعة شعرية حملت اسم “قديما وحديثا”، العمل الذي أعاده إلى واجهة المشهد الأدبي، وليدرج اسمه بين كبار شعراء العالم، فسمي عام 1885: “زعيما لمدرسة التحرر الشعري”، وأُطلق عليه لقب “أمير الشعراء”.
تدهورت أحوال شاعرنا الصحية، بعد أن أصابه بأس شديد، فتوقف عن الكتابة، بعد أن وصله من العديد من الشعراء بأن مستواه بدأ بالتدني، إلا أن هذا الحال لم يطل، فعاد للكتابة الشعرية، وكتب مجموعته الشعرية العاشرة ونشرها فور انتهائه منها، قصائد متوسطة الطول، غارقة بالرمزية والبوح والدعوى للتحرر من أي قيد إنساني وأدبي.
مات فيرلين في باريس، عن عمر ناهز ال 52 عاما، وفي اليوم الذي تلا وفاته، كانت الصحف الفرنسية مكتظة بالحادثة التي جرت عندما مرّ جثمانه أمام تمثال الشعر المنصوب في أعلى مسرح الأوبرا، فقد كُسرت يد التمثال التي تحمل قيثارة تحطمت بدورها.
بول فيرلين من الشعراء العالميين، الذين تركوا خلفهم إرثا شعريا باهرا، قد يختلف عليه العديد كما سيتفق عليه العديد أيضا، لكن الأكيد الذي صار واقعا وانتهى الأمر، أن تجربة فيرلن الشعرية، هي من أهم التجارب الشعرية في العالم لحد اللحظة، وديوان “أغنيات لها”، إصدار وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب وترجمة عادل داود، هو واحد من تلك الدواوين الشعرية التي عرفها العالم فيما بعد، على أنها أجمل ما كتب.
تمّام علي بركات