ثقافةصحيفة البعث

“جنى” هناء العمر.. وبركان الأمنيات

 

قبل الدخول إلى فضاء الشاعرة هناء العمر ومزارها الذي اختارته قصيدة أولى في (جناها) وهو الرابع بعد: سدرة الشوق، وأيوب صبرا، ونبي للحب، قبل ذلك بودي لو نقلت حرفيا ما سطرته من موقف يستحق التقدير، وهو على مقام الحبق، وفي هذا النص الافتتاحي رؤية الشاعرة لوظيفة الشعر، إن لم أقل للمهمة القتالية التي عليه إنجازها.
اشترطت هناء العمر علينا أن نعيش الشعر قبل أن نكتبه، أي أن يسحبك بمراكب الخيال حيث لا خط يفصلك عن الأفق وعن ملكوت السموات والأرض.
أما الشرط الآخر فهو ألا نصم آذاننا عن صراخ المبعدين، واستغاثة المنسيين، وزغاريد الثكالى ولم تجلد أرواحنا سياط أوجاعهم ويذبحنا الصمت المائج من خليج الشريان إلى محيط الوريد، وتجزم: أن تكون شاعرا يعني أنك لن تستجيب لنداءات الأحياء الموتى وتستبدلها بصوت غنائك.
في مزار أطبقت حمم الغياب على الشاعرة بعد أن كانت قد لبست شقاوتها وثغر البلابل، لكنها عادت واقترفت الغواية لحبيب منتظر قبل أن تصرخ:
“إلى الآن لم تفلح/دنان الحزن بطمس ملامحي/ولا أعاصيره في تساقط
أوراق الدمع…”
أما في (مراودة) وهي الفضاء الواسع للشاعرة فقد أعلنت أنها تقوم بتفخيخ السحاب ببريق تخمر لتهطل على أعياد التراب، ويا لها من صور مبتكرة في قصيدة لا تريد لها هناء الاكتمال.
وحين تصل إلى (حبرها الجنائزي) صرخة ولادتها الثالثة تبشرنا بإحدى أهم أمانيها:
“أخبز ما طاب من اللغة/ليقتات الفقراء حد الترف/وينصبوا لليتم الكافر
خيام العزاء/فأي مهمة قتالية أنبل من هذه للشعر؟”
ومثل ذلك أنها تعرج لمدارات الوله حيث الملائكة، الأنبياء، والبشر كلهم، يشربون المحبة من كوثر الإله.
وها هي في (بقعة حبر) تتطلع إلى تحديد من منهن عذراء نذرت حنانها لروح الأمومة لتصير أعظم النساء، وكذلك من أكثرهن أنوثة أو أنضرهن التياعا ومن أجملهن حزنا فتحتل القصيدة المكانة الأولى، لكن أشده إيلاما رغيف جائع لم يكتب وصايا القمح على ثغر شريد، فأي انحياز للجياع أعظم وأبهى مما أعلنته الشاعرة؟ وفي محاكاة لرواية شهيرة تكتب هناء العمر لم تقرع الأجراس في سؤال بديل عن لمن.. وفي السؤال أمنية كبرى تعكس ما في نفسها من آلام:
وددت لو احتطب بفأس الكلام/شجر الأحزان/أحيل الآه رماد ذكرى ص30
وكان بودها أن تكتب عن وطن قبل أن يذرف ما تبقى من أوليائه ويصير لهم كفنا أو منفى، فماذا كتبت إذا وكيف؟ والجواب ببساطة أنها كتبت الكثير الكثير حتى تكاد أن تحمّل كل حرف من حروفها رسالة أهات ورجع أنين، وهي المثقلة بما تركته الحرب، وباتت تصرخ: “حين فينيق الكلام ينهض من رماده رد قلبي/ وحين أنين النايات يكفن الوجع العقيم في تابوت الأمس”.
وهي في مشيئة الإلهام مازالت على بساط النص تفترش الروح فراشة تفتح كوة من بيتها الحرير لتلاوة الضوء في شوارع عارية الخطا وغيم مقطب الجبين ص 41، وهي تصف عبثية الجنون في دمشق وتراه كزحف الحرائق مع أننا وريد الحياة النازف في جرح البلاد.
أما كيف قالت كل ذلك، فتلك مهمة النقد وعلى عين القارئ الحصيف أن تدقق في شكل القصيدة عند هناء العمر، أو حتى في هذه الومضات التي أطلقت عليها تسمية قطرات وهي تغطي مساحة محدودة من المجموعة:
أنا ما أحببتك/كنت أمتحن صبري على الموت
أو مثل: على شفة البحر قصص تروي بكاء النوارس حينما غادرت وجوه البلاد بلادها ص 66
هات ملحك/أتطهر به من لوثة الغياب ..
أما مسك الختام وبيت القصيد في المجموعة فهو (جنى) وردة الفردوس، ولربما احتاج وقفة خاصة.
هذه المجموعة عصارة تجربة شعرية مكتملة الانتماء لقصيدة النثر، ويمكن اعتبارها المجموعة الأكثر تمثيلا لقصيدة مثقلة بالحداثة شكلا ومضمونا، وتستحق القراءة بعيدا عن المواقف المسبقة من قصيدة النثر التي تحمل موسيقاها ونبض انعتاقها من كل تقليد.
المجموعة صادرة عن دار الينابيع في مئة وخمس وخمسين صفحة ولوحة غلاف لـ جيهان جبر.
رياض طبرة