ثقافةصحيفة البعث

التّفاؤل بين العقل والعاطفة

 

لم أعد أذكر اسمَ قائل هذه العبارة المشهورة “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة” أهو من المنظّرين الاجتماعيين الاقتصاديّين،أم الفلاسفة “غرامشي، لوكاش، شوبنهاور، نيتشه”، فأهميّتها تنبع من إمكانيّة الفعل الذي تحضّ عليه في ظروف اليأس والإحباط الكبيرين اللّذين قد يعيشهما الكائن العاقل في ظروفٍ استثنائيّة معيّنة، كونها تبثُّ فينا شيئاً من الطاقة الإيجابيّة التي نلهث بكلّ قوانا لتحصيل بعضها في هذه الأيّام الحالكة التي نعيشها مجتمعاً وأفراداً، حيث الحاضرُ والذّاكرة مازالا ينزّان ألماً ودماً. حرب الإلغاء التي تُشنّ علينا من القوى الإمبرياليّة المتوحّشة، والغزو الثقافي والتّقني والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والاستهلاكي الذي يهدّد هويّتنا الوطنيّة ويمزّق حاضرنا ومستقبلنا وأرواحنا وجغرافيّتنا منذ سنوات، والذي ندفع ضريبةً باهظةً لمواجهته،وسنظلّ ندفعُها بأشكال مختلفة لعقود طويلةٍ قادمة.
ثمّة من يصنّع وعينَا ويتلاعب بأدمغتنا ويعيد صياغة أفكارنا، في الظلّ والضوء دوماً، لذلك يجب علينا الثّبات في معركة الوجود، على الصّعيدين الداخلي والخارجي. معركة الداخل ضدّ قوى الفساد والتّغوّل ستكون ربّما الأقسى والأطول والأشدّ وطأة وإيلاماً من الأخرى التي لم تنتهِ بعد، لأنّها تتعلّق ببيتنا الدّاخلي، بقوى وطفيليّات خفيّة تعملقتْ وترعرعتْ في جسدنا وعلى ضفاف أرواحنا حدّ السّرطنة، حتى ابتلتنا بكلّ أنواع الداء والأمراض الاجتماعية المزمنة، والكلّ معنيّ بذلك: السياسيّ النّظيف عليه المقارعة في برلمانه ومؤسسّاته الدستوريّة والقانونيّة لإحقاق الحقّ وتفعيل قوانين المحاسبة للفاسدين في كلّ مواقعهم، والسّعي لاستصدار قوانين حديثة تتناسب وحجم المستجدّات في كلّ المجالات. الفنّان في محرابه تقع عليه مسؤوليّة المساهمة في إعادة شحذ ذائقتنا البصريّة جماليّاً وروحيّاً. الأديب بتجلياته المختلفة، شاعراً، روائيّاً، قاصّاً، مسرحيّاً… الخ.عليه إطلاق العنان لقلمه الواخز لهتكِ الكثير من الأعراف الاستسلاميّة التي تكلّستْ في الأذهان، آخذةً شكلَ اليقينيّات القارّة.وأن يغمس كلماته بهموم النّاس المهمّشين وقضاياهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة الملحّة، منبّهاً إلى مواطنِ الفساد والخلل بلا مواربة. المعلّم في مدرسته عليه مسؤولية نقش بصماته التربويّة والمعرفيّة في أدمغة الأجيال المشتّتة الوعي والأخلاق والأحلام. المتديّن بتنقية قلبه وعقله ومعتقده من الحقد والضّغينة والطائفية والمذهبيّة الضّيّقة. فثمّة الكثير من المنقول والمنحول الذي يتشرّب تعاليمه، البعيدٌ كلَّ البعد عن الصّراط المستقيم،وعن النصّ المقدّس الذي يظنّ بأنه مازال يسير عليه. الأسرة كنواة أوليّة للمجتمع، معنيّة بالمحافظة على ألفتها وترميم التصدّعات والتّهتّكات الكبيرة في أركانها.
ولعلّ الشّرطين المهمّين اللّازمين للقيام بكلّ ذلك هما الحريّة والجرأة على هتك المستور والمقنّع والظّلامي الكثيف الذي يحيط بنا من كلّ الجوانب، بدل دفن الرأس في الرمال كعادتنا، والاختباء وراء أصابعنا، هكذا ستتلاقى سيول الإرادات لتصبّ الروافدُ جميعُها في نهر التّغيير والإصلاح المنشودين. والهدف الأساسي من كلّ ذلك هو إعادة خلق الوعي بما حدث ويحدث وسيحدث، علّنا بذلك نوقف الانحدار الشّديد، ونمنع حدوث المزيد من الانهيارات في الجسد والروح الاجتماعي والفردي.
شعار هذه المرحلة لا يوحي بالجمال والطمأنينة لو أخذناه بحرفيّته القائلة: “تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة” الذي يلخّص المشهد السّوداوي العام الذي نعيش، فنحن نكاد نكون عراة إلّا من ورقة التوت، وهل استطاعتْ هذه الورقة يوماً أن تستر شيئاً، ماضٍ وحاضراً؟!. العقل بمنطقه العلمي وقراءته لمفرزات الواقع وتوقّعاته للمستقبل القريب يشيرُ إلى أنّ الصّراع سيبقى إلى مزيد من الفتك وسيتلوّن بأشكالٍ أفعوانيّة مختلفة. وقوى الفساد الوحشيّة لن تستسلم بسهولة،بل ستدافع عن وجودها بكلّ إمكانيّاتها الكثيرة وهي تملكها حقّاً. إذن إنّها الحرب ثانيةً وقد تمظهرتْ بأشكالٍ مختلفة.
ما ساقني لهذا الاستطراد الطويل، هو ما يحدث في مؤسسساتنا ومجتمعنا عامة من تجلّى الصراع بين إرادتين واضحتيّ الملامح: إرادة الفساد وإرادة الإصلاح وما بينهما كانت تلوبُ إراداتٌ أخرى تمثّل شّريحة سلبية تفعل فعلها بصمتٍ مشكّكٍ،أو بشكلٍ سلبي يرضى دوماً بما تفرضه عليه القوى المتصارعة وحُماتُها في الظلّ على مبدأ الشّعار الاستسلامي “الذي يتزوّج أمّنا نقول له يا عمنا”. مع ذلك فأنا أرى بأنّ هذه التجليّات والمواقف والسّجالات التي تنعكس خاصة في سلوك الفئات المثقّفة، استطاعت أن تبشّر بشيء من الخير، وقد تنتج محصولاً جيّداً، فيما لو أُفسح لها المجال بالنّمو والتعبير الحقيقي عن نفسها بحريّة وبلا مصادرة آراء، منبئةً بزوال طيف أحادية الرؤيا والإملاءات الفوقيّة في زمن الضرورات الملحّة للتعدّديّة والاختلاف والاعتراف بالآخر، بغضّ النظر عمّا آلتْ إليه الأمور، وهنا سأستعير عبارة قالها يوماً مفكّرنا القوميّ “أنطون مقدسي” دون أن أتبنّى النّتيجة الصّادمة لها: “إنّنا محكومون بالبدايات المجهضة دوماً”. والأولى بنا استبدالَها بعبارة “إنّنا محكومون بالأمل التي قالها المسرحي سعد الله ونوس، وإلّا فمصيرنا سيكون التّقهقر الدّائم إلى الوراء، إلى الدوائر المغلقة التي ستعيد بدورها إنتاج المكرور والاستنساخي، وكأنّ شيئاً لم يحدث. أنا أحاولُ التّوصيفَ أيّها السّادة، دون التحمّس لنتيجة دون الأخرى إلّا بمقدار إيجابيّتها، لم أشتمْ من ذهبَ كمثال للشّرّ المطلق، ولم أهلّل لمن أتى باعتباره ملاكَاً تغييريّاً بعثته السماء،سيجعل نهر الكوثر يجري من تحت أقدام الأعضاء في جنّة عدْنِ الاتحاد. وهل جرى يوماً ما حقّاً؟!. فكلّ ما حدث كان محكوماً بمعطيات المرحلة وطبيعة وعي ونضج مثقفيها ومؤسّساتهم الرّسميّة. والعمل الحقيقي يجب ألّا يكون فرديّاً ولا استئثاريّاً، فالكفاءات النّظيفة موجودة في كلّ مؤسّسات الوطن. داخل اتّحاد الكتّاب وخارجه ربّما أكثر، وهناك حاجة ماسّة لإعادة النظر بالإجراءات الغريبة للانتماء والعضويّة فيه، يجب تغيير آلية إعادة إنتاج الخطأ المزمن والفساد المكرور، وتجاوز حالة الجعجعة التي لم تنتجْ طحيناً. فهل ننجح بتوجيه البوصلة في الاتجاه الصّحيح؟ ما يحدث أحيانا من مشاحنات واتهامات وتهجمّات، يقابلها آمال ودماء كثيرة تسيل في المقلب الآخر للحقيقة على كامل مساحة الوطن؟. لذلك أقول بشيء من الأمل: إنّها قد تكون بدايةٌ لحراكٍ نقديٍّ ثقافيٍّ مؤسّساتي إيجابيٍّ،حتى لو غلبتْ على حواراتنا الصّراخيّة والحدّة والشّخصنة، التي قوّضتْ الكثير من إمكانيّة تأثيرها وفعلها المرتجى للأسف الشّديد.

أوس أحمد أسعد