دراساتصحيفة البعث

الثقافة من الصراع الأيديولوجي إلى أيديولوجيا الاختراق

الدكتور سليم بركات
من المفيد التعرض لما يثيره مفهوم الثقافة قبل الدخول في تفصيلاته الاجتماعية النخبوية منها وغير النخبوية، لأن الأمر يتعلق بواحد من المفاهيم المطاطة المعرضة للغموض، ولعل السبب في هذا يعود إلى حداثة هذا المفهوم في الثروة الثقافية البشرية، ولاسيما في العربية منها. الأمر الذي يؤكد أن كلمة ثقافة التي لا تخرج عن معنى الحذق والذكاء والتقويم والتسوية في القواميس العربية، هي خصلة عقلية مولدة من جديد وليست مفهوماً تاريخياً عريقاً مجرداً، كما يؤكد الرأي القائل أنها كلمة مشتقة للدلالة على المعنى المجازي لكلمة (culture)، هذه الكلمة التي تعني في اللغات الأوروبية ومنها الفرنسية الفلاحة والزراعة، أي مجموع العمليات الخاصة بالعمل في الأرض بقصد استغلالها لفائدة الإنسان، ومن ثم تطور هذا المفهوم ليصبح تنمية القدرات العقلية للإنسان من خلال التدريب والمران، وبالتالي للدلالة على مجموع المعارف المكتسبة التي تمكن من روح النقد والقدرة على الحكم. وهذا التطور بالمفهوم من عالم الزراعة إلى عالم الفكر إنما كان بتأثير عملية النهضة الأوروبية التي انتقلت بهذا المفهوم من زراعة الأرض بقصد استغلال خيراتها إلى تدريب الفكر لجني ثمراته.

مفهوم الثقافة
لقد ألحّ الكثير من الكتاب الأوروبيين منذ عصر النهضة وحتى يومنا هذا على جني ثمرات الفكر المتضمّنة في هذا المفهوم للثقافة، والذي لا يوجد فيه أي فروق على الصعيد الأوروبي، أكان ذلك في اللغة الفرنسية أم كان ذلك بغيرها من اللغات الأوروبية. وما دمنا بصدد بيان دلالات هذا المفهوم على الصعيد الأوروبي، فلابد أن نستدل على المعنى الأنثربولوجي للكلمة، والذي يعرّف على أنه علم الإنسان الذي يهتم بدراسة الثقافات البشرية من جوانبها المختلفة، وهو يركز على بنائها وتشكلها وأدائها بالمعنى السيكولوجي للكلمة وفي كل زمان ومكان. ولعل التعريف الذي اعتمده (ادوارد تايلور) لا يزال معتمداً منذ عام 1878 وحتى يومنا هذا، ومضمونه (أن الثقافة هي ذلك الكل المركب من المعرفة والعادات والمعتقدات والأخلاق والفن والقانون، وأية قدرات أخرى يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع) وفي ضوء هذا التنوع والكثرة تضمّ الإناسة الثقافية علم الأعراق، والآثار، واللغويات.
على العموم في اللغات الأوروبية كلمة ثقافة تعني الحضارة، ولاسيما في اللغة الألمانية، وهذا ما سبق أن عبر عنه ابن خلدون عندما أطلق عليها بقسميها الحضري والبدوي اسم العمران البشري، إنها ليست البناء الفكري فحسب بل هي أيضاً السلوك الفردي والمجتمعي، وما يرتبط بهما من تقاليد وأعراف وأخلاق، مضافاً إليها أدوات العمل والإنتاج، تلك هي الدلالات الرئيسة لمصطلح الثقافة على مستوى العالم، لكنها في الفكر العربي وحتى أواخر خمسينيات القرن المنصرم لم تكن منشغلة في المعنى المعرفي الأكاديمي، ولا في المعنى الأنثربولوجي لمفهوم الثقافة بقدر ما كانت مشغولة بمفهوم آخر هو مفهوم الثقافة الوطنية، والذي برز نتيجة لمواجهة الاستعمار، وهو ملتصق بالقضية الوطنية، سواء تمثلت بالكفاح من أجل الاستقلال وإجلاء الأجنبي، أو تمثلت بتحرير الثقافة الوطنية مما تعرضت له من تدمير في العهد الاستعماري.

الثقافة الوطنية
لم تكن الثقافة الوطنية معروفة أو ينظر إليها من زاوية ما يحمله المثقفون في أدمغتهم من معلومات أو يكتبونه من مقالات أو دراسات أو روايات… بل كانت معروفة ومحددة بالوضعية الاجتماعية التي يعيشها المجتمع، والمرتبطة بظاهرة عامة تتلخص بالكفاح المسلح ضد المستعمر من أجل التحرر الوطني القومي، وهذا يعني وضع الثقافة الوطنية المقاومة في مواجهة الثقافة الاستعمارية التي أنشأها المستعمر في البلاد المستعمرة له أو التابعة لنفوذه، الأمر الذي يؤكد أن هذا المستعمر لم يكن يعمل على نشر الثقافة العصرية لذاتها، بل من أجل أن يخلق الأدوات المحلية اللازمة له لتعميم سيطرته ونفوذه على الصعد كافة، وفي جميع المجالات. إنّ الاستعمار كما خبرناه ليس شكلاً سياسياً وحسب، وإنما هو تسلط ثقافي عصري لخدمة مصالحه وتثبيت وجوده.
إن التصور الذي يقدم الثقافة الوطنية القومية على غيرها من تصورات هو المعبر بصدق وأمانة عن روح الشعب، والمقصود هنا بروح الشعب في الوطن العربي آنذاك ليس ما كان يقصد به في البلدان الأوروبية من عرقية، وقوميات متطرفة يغذيها الاستعلاء المفرط، حتى ولا أي فكرة ميتافيزيقية أو تصور غيبي، بل كان يقصد فيها خلاصة الحياة الوجدانية لمجموع أفراد الشعب العربي بوصفهم كلاً واحداً لصناعة تاريخ واحد، وبالتالي تصبح الثقافة الوطنية في مثل هذه الحالة هي الوضعية التاريخية التي تعيشها الأمة العربية بكل ملابساتها وأبعادها، بمعنى أنها روح الشعب وهي للشعب كله. إنها تفاعل ذاتي، وتكيف خارجي، وموقف فكري عملي من الحياة والتاريخ، ولهذا كان لنصوص (فرانز فانون) الرواج الكبير على الساحة العربية في ستينيات القرن المنصرم، والتي تنظر إلى الثقافة على أنها (مجموع الجهود التي يبذلها شعب من الشعوب على صعيد الفكر من أجل إغناء النضال الذي به يتكون الشعب ويبقى) كما كان لشعارات (ماوتسي تونغ) أصداء واسعة في الفكر العربي، والتي تعتمد الثقافة الوطنية على أنها الفأس والقلم (الفأس لهدم الثقافة الاستعمارية والقلم لبناء الثقافة الوطنية).

مستويات الثقافة الوطنية
يوجد للثقافة بمعناها المعرفي على الصعيد الوطني مستويات، منها الثقافة على المستوى الفردي الإنساني، والمثقف بهذا المعنى يتمثل ثقافتين وطنية وإنسانية، ومنها الثقافة الجماهيرية، وهي الثقافة التي تعكس واقع المجتمع الذي تنتسب إليه، (وضعيته، مطامحه، واتجاه مسيرته…) وفي مثل هذه الحالة لا يمكن الحديث عن ثقافة مجتمع ما بكيفية مطلقة، أكان ذلك فيما يخصّ ثقافة النخبة، أم كان ذلك فيما يخصّ ثقافة الجمهور. ومنها الثقافة على المستوى الإنساني بقطع النظر عن الزمان والمكان، وهي الثقافة بمعنى الأعمال الفكرية والفنية الخالدة والتي تعبر عن موقف الإنسان إزاء الطبيعة وما وراء الطبيعة، وبالتالي إزاء نفسه ومصيره.
في هذا الإطار من التمييز بين مستويات الثقافة علينا أن لا نغفل الطابع المنهجي للثقافة كيلا نعطي هذه المستويات نظرة سكونية ونحن نفصل بشكل تعسفي بين الفردي، والمجتمعي، والإنساني، بل يجب أن نضع نصب أعيننا في هذا الميدان كما في غيره من الميادين الأخرى، أن ليس هناك خاص ثقافي مطلق، ولا عام ثقافي مطلق، لأن الثقافة تصطبغ بنوع من العمومية والشمولية والإلمام، وهي تحمل في طياتها طابع الخصوصية، كما أن خصوصيتها تستطيع أن تحمل في طياتها شيء من العمومية، بمعنى أن المطلق والنسبي الثقافي يشكلان حقيقة واحدة متكاملة، الأمر الذي يؤكد أن الثقافة ليست هذا الجانب التعبيري الانفعالي وحسب، بل هي قوة فاعلة وسلاح خطير يؤثر في الإنسان لتشكيل وعيه وتوجيه رؤاه، وتحديد آفاقه، كما تؤثر في المجتمع لتعرقل مسيرته أو تدفع بها نحو الأمام، وهي تعمل في الوقت ذاته على توجيه المصير البشري نحو هذه الجهة أو تلك، ولاسيما في هذا العصر الذي أصبحت فيه وسائل الطباعة ميسرة وكثيرة، كما أصبحت فيه أدوات التواصل والاتصال سريعة ومتعددة.

الإشكالية الثقافية
لقد تداخلت الثقافات فيما بينها على مستوى شعوب العالم منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الثمانينيات منه، ومع انتشار العولمة بدأ مشهد الإشكالية الثقافية يتغير لصالح مفاهيم العالم الجديد، الذي يهيمن عليه الطابع الإمبراطوري للولايات المتحدة الأمريكية سياسياً، واقتصادياً، وإعلامياً… تغيّر أدّى إلى حلول المفهوم الليبرالي محل نقيضه الشيوعي، ومفهوم دولة العالم محلّ مفهوم عالم الدول، كما حلّ فيه مفهوم الاندماج الاقتصادي في السوق العالمية محل الاستقلال الاقتصادي للدول.
ما ينبغي أن نقف عنده في هذا الخضم هو الاختراق الثقافي الذي حدث في الجسم الثقافي العربي متأثراً بالطابع الأحادي الأمريكي وعالمه الجديد من خلال مفاهيم فرضت نفسها على الساحة الثقافية العربية ممثلة بمفاهيم (ثقافة السلام، ثقافة الحوار، ثقافة الاعتراف بالآخر، ثقافة التسامح…) وما يهم في هذا الاختراق الثقافي للثقافة العربية ليس ما تتحدث عنه هذه المفاهيم، وإنما عمّا تضمره وما تخفيه وهي تتبنى الحروب بأنواعها الفكرية، والاقتصادية، والعسكرية لتفرض الهيمنة الامبريالية الصهيونية، وتغييب الذهنية البشرية تحت شعارات حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية. والسؤال أليس هذا ما عبرت عنه الثقافة الامبريالية الصهيونية قبل غزو العراق وبعده تحت شعارات ما يسمى بالربيع العربي؟ ومن ثم أليس هذا ما قاله أجداد هؤلاء الغزاة في القرنين التاسع عشر والعشرين عن الحروب الاستعمارية على أنها حروب من أجل الإعمار والحضارة؟ وهل نجانب الحقيقة إذا قلنا أنّ مسألة التلاعب بالوعي العربي مازالت قائمة من قبل هؤلاء بكل ما تحمل الكلمة من معنى أكان هذا في الماضي أم كان في الحاضر، وسيبقى في المستقبل. وبالتالي ألم تصبح هذه الثقافة أكثر وضوحاً في عهد الرئيس الأمريكي ترامب؟ متى يعي العرب ذاتهم حتى يكون وعيهم لغيرهم؟.
بقي أن نقول ما كان سائداً ثقافياً في القرن الماضي على مستوى العالم هو الصراع الأيديولوجي الذي يستهدف تشكيل الوعي، وتزييفه، أو تصحيحه، أما ما هو سائد في هذا العصر فهو أيديولوجيا الاختراق الثقافي الامبريالي الصهيوني، إنه الاختراق الجديد الذي حلّت فيه مفردة الإدراك محل مفردة الوعي من خلال اختطاف الإدراك وتوجيهه نحو تسطيح الوعي ليصبح صوراً ومشاهداً ذات طابع إعلامي إشهاري مثير للإدراك، مستفز للانفعال، حاجب للعقل، مكيف للذوق، موجه للخيال والسلوك. إنه أيديولوجيا الاختراق الثقافي في عالم اليوم، وهي الأيديولوجيا الصراعية الأنانية التي لا تخاطر في تقديم أيّ مشروع مفيد لغيرها، كما لا تقدم نفسها كخصم، وإنما كل ما تقدمه هو مشاريع الأوهام والاستسلام خدمة لمصالحها.