دراساتصحيفة البعث

الجلاء مفهوم وفكر

علي اليوسف

ما أشبه اليوم بالأمس، فبالأمس كان الانتداب الفرنسي مستعمراً للأراضي السورية هو وحلفاؤه من البريطانيين والأمريكيين، واليوم أيضاً هذه الدول الاستعمارية نفسها، ولكن هذه المرة عبر الأدوات التي صنعتها لتدمير أمة ضاربة في التاريخ. إن الجلاء مفهوم وقيمة وفكر وثقافة، لأنه يعتبر المفصل الرئيسي في تاريخ سورية الحديث، فالجلاء هو مولود سوري بامتياز رأى النور بعد مخاض عسير وتضحيات من الشعب السوري، ولا شك ثمة جلاء قادم يعيد سورية التاريخ إلى النور، ويزيح تلك الغيمة السوداء التي تحاول أن تعيد سورية إلى زمن الاستعمار.
تمرّ الذكرى الثالثة والسبعون لجلاء المستعمر الفرنسي، وقد مضى من عمر الأزمة السورية ما يقارب الثماني سنوات، أثبت خلالها السوريون أنهم مصمّمون على صون الاستقلال والحفاظ على وحدة سورية. في مثل هذا اليوم، 17 نيسان 1946، تمّ جلاء آخر جندي فرنسي عن سورية، وبعد ذلك التاريخ تغيّرت أمور كثيرة في العالم، ومثلها في المنطقة العربية، وما زال العالم يعيد ترتيب أوراقه وأولوياته، بينما صارت سورية الميدان الأكبر لصراعاته.
كان وقع الاحتلال الفرنسي ثقيلاً على السوريين، كونه ترافق مع جملة من الإجراءات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي اتّسمت بالقسوة الشديدة لخنق روح الثورة والاستقلال لدى الشعب، إلى جانب عملها على امتصاص خيرات البلاد، ونهب ثرواتها. لذلك انتفض السوريون، فبدأت الثورة الأولى عام 1922 بقيادة سلطان باشا الأطرش في جبل العرب، ورغم توقف الثورة بعدها بعام، اتخذت سلطات الاحتلال إجراءات وحشية، كانت سبباً في اندلاع الثورة مرة أخرى عام 1925، وتوالت المعارك الطاحنة. وفي 23 آب 1925، أصدر سلطان باشا الأطرش منشوره الشهير إلى الشعب السوري، الذي أعلن فيه بيان الثورة السورية الكبرى ومطالبها. وعلى إثر هذا البيان امتدت الثورة إلى جميع أنحاء دمشق وجبل العرب وجنوب سورية وشمالها وساحلها، وتوالت المعارك بين الثوار والقوات الفرنسية حتى عام نيسان 1927، حين أجبر الاستعمار الفرنسي الثوار وقادتهم على المغادرة إلى الأردن وفلسطين ومصر.
ورغم توقف الثورات المسلحة، تواصل نضال الشعب السوري سياسياً من أجل الاستقلال، حيث تشكّلت الجمعية التأسيسية، وبدأت أولى جلساتها في 9 حزيران 1928 وترأسها هاشم الأتاسي، حيث اقترحت الدستور، الذي صاغته لجنة يرأسها المناضل إبراهيم هنانو، وتألف الدستور من 115 مادة، أبرزها مادة اعتبرت سورية دولة واحدة غير قابلة للتجزئة، وأن نظام الحكم جمهوري برلماني. رفضت فرنسا بنود الدستور، وساومت على إلغائها، فيما رفضت الجمعية التأسيسية إلغاء أي منها، ما دفع بسلطات الاحتلال إلى تعطيل الجمعية، وفي 1930 أجرت فرنسا محاولة ثانية للوصول إلى تسوية مع القوى الوطنية السورية بالإعلان عن دستور جديد يتألف من مواد الدستور القديم نفسها، مضافاً إليها مادة تقضي بوقف تنفيذ المواد التي تمسّ صلاحيات الانتداب، ما أدى بالشعب السوري إلى الانتفاض مجدداً، وعمّت المظاهرات والإضرابات مختلف أنحاء البلاد، وبعد مفاوضات طويلة توصل الوفد السوري المفاوض مع الحكومة الفرنسية إلى عقد المعاهدة المعروفة بمعاهدة عام 1936.
لقيت المعاهدة اعتراضات شتى بدعوى أنها تعطي صفة شرعية للانتداب الفرنسي، إلا أنه على إثر المعاهدة انعقدت في سورية انتخابات لتشكيل مجلس نيابي سوري، فازت الكتلة الوطنية بأغلبية مقاعده، ما أثار حفيظة فرنسا، ورفض الموظفون الفرنسيون تسليم سلطاتهم للحكومة المنتخبة، وتردّت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إلى أن حلّت السلطات الفرنسية البرلمان السوري المنتخب، وعاد الاستعمار من جديد.
كانت الحرب العالمية الثانية قد ألقت بظلالها على العالم آنذاك، ودخلت قوات الحلفاء في حرب مع قوات المحور، وشهدت سورية صراعاً بين القوات الفرنسية التي كانت تابعة لحكومة فيشي (الموالية للألمان) وقوات حكومة الجنرال ديغول (المتحالفة مع الحلفاء)، حيث تمكنت القوات المتحالفة من إخراج قوات فيشي من سورية في تموز 1941، وعلى إثر ذلك أذاع (ديغول) بيانه الشهير الذي وعد فيه سورية ولبنان بالاستقلال وحق تقرير المصير.
وبناء على ذلك، أُجريت عام 1942 انتخابات نيابية فازت فيها الكتلة الوطنية، وفي آب 1943 انتُخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية السورية، وتألفت حكومة جديدة برئاسة سعد الله الجابري. ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، حاولت فرنسا أن تعيد سيطرتها الاستعمارية على سورية، فاندلعت الاضطرابات في كافة أنحاء سورية، وواجهت فرنسا الاحتجاجات بقوة مفرطة، مرتكبة مجازر ضد المدنيين. وتوالت الأحداث حتى خرج آخر جندي أجنبي من الأراضي السورية في 17 نيسان 1946 تتويجاً لنضال طويل مليء بالتضحيات.
في سبيل الحرية، قدّمت سورية آلاف الشهداء للتخلّص من الاحتلال الفرنسي، فلم يخشَ الشعب طائرات ومدافع قوات الاحتلال، بل إن بطش المستعمر جعل لهيب الثورات يزداد اشتعالاً، ورفض السوريون المناورات الكثيرة التي قامت بها سلطات الاحتلال بعدما فشلت في إخضاعهم وفوّتوا على المحتل ألاعيبه المتمثّلة بمنح البلاد استقلالاً شكلياً.
السوريون اليوم وهم يخوضون غمار الصراع في سبيل الحرية والكرامة، يدركون جيداً تبدل مفهوم “الاستقلال” وصعوباته، في ظل تعدّد أشكال الهيمنة والاستغلال والسيطرة، التي لا تبدأ بالغزو الفكري، ولا تنتهي بالالتزامات الدولية التي تكون بالضرورة على حساب السيادة الوطنية. لذلك تأتي ذكرى الجلاء هذا العام وسورية تعيش مرحلة صعبة من تاريخها، تتقاطع فيها عوامل خارجية لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، تسعى من خلالها قوى مختلفة إلى إزاحة سورية عن تراثها وتاريخها ودورها الحضاري، المطالب بالحقوق الوطنية في السيادة والاستقلال وتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي.
إن ذكرى الجلاء ما زالت قادرة حتى الآن على شحذ الهمم، لأن الشعب السوري لا يمكن هزيمته، وهو قادر على التخلّص من حفنة الإرهابيين الذين يحاولون إسقاط سورية التي ما زالت قادرة على التصدي لكافة أشكال العدوان الجديدة رغم ما لحق بها خلال السنوات الأخيرة من دمار وخراب وإرهاب.