أخبارصحيفة البعث

كذبة نهاية القرن العشرين

منذ عشرين عاماً، وتحديداً في 24 آذار من عام 1999، أقدمت ثلاثة عشر دولة من دول حلف الناتو، بينها فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا، على قصف جمهورية يوغسلافيا الاتحادية. استمر العدوان 78 يوماً، وكان يقتات على الأكاذيب والتضليل الإعلامي لتأليب الرأي العام الغربي ضد هيئة الأركان العليا اليوغسلافية. كانت الأخبار الملفقة والواردة تفيد بأن الصرب يرتكبون إبادة جماعية، ويلعبون كرة القدم بالرؤوس المقطوعة، ويمثّلون بجثث الضحايا، ويبقرون بطون الأمهات الموتى، وينزعون الأجنّة منها ومن ثم يقومون بحرقها، هكذا ادعى وزير الدفاع الألماني آنذاك، وكرّرت وسائل الإعلام ادعاءاته.
بعد انتهاء الحرب، تمّ تكذيب هذه الأنباء المزيفة، ومن بين الذين ساعدوا في تبيان الحقائق الصحفي الأمريكي دانييل بيرل، الذي أجرى تحقيقاً في صحيفة وول ستريت جورنال، لتكون هزيمة أخرى ضد الإعلام المزيّف مثلما تمّت هزيمة أحد أكثر الفبركات المدوية في نهاية القرن العشرين ألا وهي “خطة بوتكوفا” أو “حدوة الحصان”، وهي وثيقة مزيفة تزعم أن الصرب قد برمجوا “التطهير العرقي” لكوسوفو، والتي نشرتها ألمانيا أيضاً في نيسان 1999 بمثابة ذريعة لتكثيف الغارات الجوية.
كانت المعلومات الخاطئة الرئيسية صنيعة الحكومات الغربية، ومنظمة حلف شمال الأطلسي ومعظم وسائل الإعلام الأكثر “احتراماً”. ومن بينها صحيفة لوموند الفرنسية، التي كانت تعتبر افتتاحياتها كمرجع للمجرة الإعلامية الفرنسية. فقد أعلنت في افتتاحية عددها الصادر في 8 نيسان 1999، بقلم دانييل فيرنيه، اتخاذ خيار التدخل العسكري في يوغسلافيا، بعدما تمّ الكشف عن خطة “حدوة الحصان” التي برمجت إقصاء سكان كوسوفو، وقد تبنى فيرنيه المعلومات التي كشف عنها وزير الخارجية الألماني السابق، يوشكا فيشر، والتي تقول: إن خطة حكومة بلغراد تجسّد التطهير العرقي المطبق في كوسوفو وتسمى “حدوة الحصان”. وبعد يومين، كررت لوموند على امتداد صفحاتها كيف أعد سلوبودان ميلوزوفيتش التطهير العرقي قائلة : ” لقد برمجت الخطة الصربية “بوتكوفا، أي حدوة الحصان”، التهجير الجماعي لسكان كوسوفو منذ تشرين الأول 1998. واستحضرت الصحيفة الوثيقة العسكرية الصربية وكرّرت مرة أخرى مزاعم المسؤولين الألمان إلى درجة استنساخ مذكرة التوقيف التي وزعها المفتش العام الألماني على الصحفيين لتبرير أول حرب سيخوضها الناتو ضد بلد احتلته ألمانيا قبل خمسين عاماً.
هذه الخطة كانت مزوّرة، ولم يتمّ وضعها من قبل السلطات الصربية، وإنما تمّت صناعتها من قبل  عناصر جمعتها أجهزة المخابرات البلغارية، ومن ثم تمّ نقلها إلى الألمان من قبل هذا البلد الذي كان متحمّساً للعودة إلى حلف الناتو. وكانت مجلة دير شبيغل الألمانية كشفت النقاب عن هذه الخطة المزيفة في 10 كانون الثاني عام 2000، وأكدها وزير الخارجية البلغاري السابق بعد مرور اثني عشر عاماً. وفي آذار من نفس العام،  أعرب العميد الألماني هاينز لوكي عن شكوكه حول وجود مثل هذه الوثيقة. وفي الوقت عينه، وصف المتحدّث باسم المحكمة الجنائية الدولية من أجل يوغسلافيا السابقة عناصر الخطة المزعومة بأنها “مادة  غير مقنعة”، ولن تشير المدعية العامة كارلا ديل بونتي إلى ذلك في لائحة الاتهام الموجهة ضد ميلوزوفيتش عام 1999 ومرة أخرى في عام 2001.
كانت “الحرب”، كما أوضح يدل بعد فترة وجيزة من بدء القصف، “هي أشد تحد للصحافة، فهنا تثبت مصداقيتها من عدمها”. لم يأت المحقق أبداً إلى هذه الفجوة الكبيرة مع “حب الحقائق الحقيقية الصغيرة” التي أعلنها في كتابه لصالح تدخل الناتو. سوف يستحضر العالم الخطأ مرة أخرى، وستبقى  “حدوة الحصان” وثيقة مثيرة للجدل إلى حد كبير، لم تثبت صحتها مطلقاً. من جانبهم وصف صحفيان  من البلقان جان أرنو ديرين ولوران جيسلين، خطة “بوتكوفا”  بأنها لا تعدو كونها أخبار مزيفة ومفبركة بثتها الجيوش الغربية ونشرتها الصحف الأوربية الكبرى على صفحاتها.
حرب كوسوفو لا تزال تلقي بتبعاتها الكارثية على الساحة الدولية حتى يومنا هذا.  فهي الحرب الأولى التي خاضها حلف الناتو منذ نشأته عام 1949 فاختار مهاجمة دولة لم تهدد أياً من أعضائه، باستخدام الذرائع “الإنسانية”، وتصرّف بدون تفويض من الأمم المتحدة. فكانت السابقة التي خدمت الولايات المتحدة وحلفاءها لشن غزواتها باستخدام الذرائع والحجج الواهية بمساعدة حملات التضليل الإعلامي الفظيعة وبدون تفويض من الأمم المتحدة.. في عام 2003 تمّ غزو العراق بذريعة البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ومن ثم غزو ليبيا من قبل فرنسا وبريطانيا بذريعة إنقاذ الشعب الليبي، وأخيراً وليس آخراً الحرب الشرسة التي شنتها بالوكالة الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوربيين والخليجيين وتركيا على سورية من خلال استقدام المرتزقة الإرهابيين من كل أصقاع العالم وإرسالهم إلى سورية ودعهم بالمال والسلاح للقتال إلى جانب أدواتها في الداخل ضد الجيش العربي السوري والدولة الوطنية بذريعة نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان. وكذلك الأمر بالنسبة للعدوان السعودي على اليمن بدعم ومباركة الإدارة الأمريكية.
فمنذ أن شنت الحكومات اليسارية وبدعم الأحزاب المحافظة، الحرب على كوسوفو، لم تكن هناك أي فائدة ترجى من إعادة التزييف والتضليل الرسمي الذي ازدهر واستمر منذ ذلك الحين، بل على العكس تسببت هذه الحروب”الإنسانية دائماً” بكوارث بشرية فظيعة فقد دمّرت دولاً برمتها وشرّدت الملايين من شعوبها، وتسببت بمقتل مئات الآلاف الآخرين، عدا مئات آلاف الجرحى والمصابين بإعاقات مستديمة، وانتشار الأمراض والأوبئة والمجاعة لتقضي على من تبقى من الناجين منهم، كما يحدث الآن في اليمن. وها هي اليوم تهدد بشن عملية عسكرية ضد فنزويلا لنفس الأسباب “والدوافع الإنسانية”.
هيفاء علي