دراساتصحيفة البعث

نيسان رمز البطولة والفداء.. توج فيه عيد الجلاء

 

المستشار رشيد موعد
قاضي محكمة الجنايات سابقاً

تميّز تاريخ سورية بالعديد من الأحداث، حيث شهد نهاية الوجود العثماني الذي استمر 400 سنة، تبعه قيام الحكومة العربية في دمشق استمرت لفترة عامين فقط من عام 1918– 1920 برعاية الملك فيصل، ليتبعها الاحتلال الفرنسي الذي استمر أكثر من ربع قرن منذ عام 1920 وحتى الجلاء عام 1946.
شهدت سورية منذ اللحظات الأولى لدخول المستعمر الفرنسي مقاومة عنيفة امتدت على طول البلاد وعرضها، وظهر على الساحة عدد من الثوار والمناضلين نذكر منهم على سبيل المثال: المجاهد البطل سلطان باشا الأطرش قائد المنطقة الجنوبية، والمجاهد البطل الشيخ صالح العلي قائد ثورة الساحل، والمجاهد البطل إبراهيم هنانو قائد ثورة الشمال، ومن هؤلاء المناضلين أيضاً الشهيد وزير الحربية يوسف العظمة الذي أبى إلا أن يدخل المستعمر على جسده كي لا يقال يوماً إن الفرنسيين لم يجدوا أية مقاومة عندما دخلوا إلى دمشق.
ولد المجاهد يوسف بن إبراهيم بن عبد الرحمن العظمة في حي الشاغور بدمشق وهو يجيد اللغة العربية، والتركية، والفرنسية، والألمانية. عندما تشكلت الحكومة العربية بدمشق 1918– 1920 برئاسة الملك فيصل بن الحسين التحق يوسف العظمة بالجيش العربي السوري وعُيّن ضابطاً فيه، ومن ثم رُقيَّ إلى رتبة عميد وأُسندت إليه وزارة الحربية سنة 1920 بعهد رئيس الجمهورية آنذاك هاشم الأتاسي، حيث نظم جيشاً وطنياً ناهز تعداده 10 آلاف مقاتل.
وفي 23 تموز1920 تلقى الملك فيصل (وكان ملكاً على سورية) إنذار الجنرال الفرنسي “غورو” الذي كان محتلاً للبنان بوجوب تسريح الجيش السوري. اجتمع الوزراء في الحكومة السورية مع الملك فيصل لاستعراض ما يمكن أن يحدث في حال رفض الإنذار. دخل يوسف العظمة إلى غرفة الملك فيصل وجرى بينهما الحوار التالي: يوسف العظمة للملك فيصل: “أتيت أتلقى أوامر جلالتكم يا سيدي.. الملك فيصل بارك الله فيك يا يوسف.. إذن أنت مسافر لميسلون، نعم يا مولاي.. إذا كنتم ترفضون الإنذار الموجّه إلينا من الفرنسي غورو. الفيصل: ولماذا كنت تُصرّ بشدة على الدفاع عن أرض الوطن. العظمة: لأني لم أكن أعتقد بأن الفرنسيين يتمكّنون من دوس جميع الحقوق الدولية والإنسانية ويقدمون على احتلال دمشق. الفيصل: وهل يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدمُ. العظمة: إذن فهل يأذن لي جلالة الملك أن أموت وأرجو أن أوصيك بابنتي الوحيدة ليلى أمانة لدى جلالتكم”.
ثم ودَّع يوسف العظمة الملك فيصل وذهب إلى منزله وارتدى ملابسه العسكرية وودَّع زوجته وابنته ومرّ من أمام القصر الملكي وتابع سيره إلى ميسلون. كان عدد القوات الفرنسية تسعة آلاف جندي بقيادة الجنرال “غوابيه”، في حين ذكر المؤرخ ناصر الدين النشاشيبي أن مجموع القوات الفرنسية التي حشدها “الجنرال غورو” على سورية بلغ 90 ألفاً، وروى أحد الضباط الفرنسيين أن الجيش الفرنسي كان يتألف في لبنان من 60 ألف جندي و150 طائرة و50 دبابة. اعتمد يوسف العظمة على خطة دفاعية هجومية ألقاها شفاهاً على الضباط صباح 23/تموز واختيرت أماكن الجيش العربي السوري بدقة شهد لهم بها الضباط الفرنسيون.
الجنرال “غوابيه” قال عن البطل يوسف العظمة: “إن العظمة خصم لا يُستهان به”.
بدأت معركة ميسلون بين الجيش العربي السوري وقوات غزو الاحتلال الفرنسي صباح 24/تموز عام /1920 حيث هاجم الفرنسيون بالدبابات والمشاة ومهدوا ذلك بنيران مدفعيتهم الكثيفة. اقتربت القوات الفرنسية كثيراً من قلب ميسلون، وبعد معارك عنيفة جرت هناك وأثناء ذلك شاهد أحد رماة الدبابات الفرنسية البطل يوسف العظمة من خلال لمعان شاراته الصفراء بفعل أشعة الشمس، حيث كان يرتدي لباس المراسم وكان يهمُّ بالانتقال إلى جانب مدفع تعطّل لإصلاحه فأطلق الجندي الفرنسي قذائف رشاش دبابة عليه فأصابه برأسه وصدره فسقط شهيداً. كان ذلك في الساعة 10,30 صباحاً من يوم 24 تموز 1920 وفور انتشار نبأ مقتل البطل يوسف العظمة انهارت المقاومة وانسحب البقية من الجيش بعد سماع مقتله. بعد ذلك أجهز الفرنسيون على الجرحى الذين بقوا في ساحة المعركة بالسلاح الأبيض، وذكر المؤرخ محمد كرد علي أن أحد الضباط السنغاليين “أقسم بالله أن الجنود السود لم يقتلوا عربياً واحداً”، والبعض قال عكس ذلك، حسب د. إحسان الهندي.
ذكر الجنرال “غورو” في تقريره أن المعركة مع الجيش السوري كانت حامية دامت 8 ساعات، وكان استعمال المدفعية يكاد مستحيلاً على الأرض الوعرة في ميسلون وكأنها معركة “في الحرب العالمية”.
البطل يوسف العظمة كان يعلم بالنتيجة مسبقاً، لكنه أراد ألا يدخل الفرنسيون دمشق إلا بقتال مشرِّف، ومن المصادفات أن يكون العظمة هو الضابط الوحيد الذي اُستشهد في ميسلون، إذ لم يرد اسم ضابط آخر شهيد نتيجة المعركة. كان يوسف العظمة جندياً شجاعاً يحارب عندما يُؤمر بالحرب دون أن يفكر فيما إذا كان سيكسب المعركة أو يخسرها. لم يكن سقوط الشهيد يوسف العظمة في ميسلون انتحاراً، كما وصف البعض، بقدر ما كان ارتقاءً بالمقاومة إلى حدود الموت دونما حسابات للحياة. كان إحساسه بكرامة الأمة قد جعل منه رمزاً لصمودها.
السابع عشر من نيسان ذاكرة وطن، فهو اليوم الذي يؤرّخ للثورات التي توّجت به فجاء نتيجة تضحيات في معارك العزة والبطولة ضد المستعمر الفرنسي الغاشم. لقد حقّق الشعب العربي السوري الاستقلال في هذا اليوم بعد نضال مرير خاضه أبطال هذا الاستقلال على مدى ربع قرن من الزمن قدّموا فيه التضحيات والشهداء الذين ضحوا بأرواحهم وأموالهم لإنجاز هذا الاستقلال الذي شكّل في 17 نيسان بداية مرحلة تاريخية مشرّفة من مراحل نضال الشعب العربي السوري وجسراً للعبور إلى مراحل متقدمة أسّست لبناء سورية الحديثة .
ليس غريباً على سورية أن تجعل من عيد الجلاء في هذه الأيام الصعبة، عيداً للقيم والبطولة والنهوض والاستقرار والممانعة في مواجهة كل محاولات مصادرة الإرادة والسيادة الوطنية. لم تكن انطلاقة الثورة السورية الكبرى بقيادة المجاهد سلطان باشا الأطرش ردّة فعل محلية، أو مناطقية، أو عشائرية، بل كانت تعبيراً صادقاً عن المشاعر الوطنية لدى الشعب السوري الرافض للاحتلال الفرنسي، حيث أعلن المجاهد الأطرش الثورة رسمياً بتاريخ 23/8/1925 وقد انضمت دمشق وحمص وحماة وطرطوس واللاذقية وحلب وإدلب إليها. تحركت هذه الثورة من كل المدن بقيادة عدد من الأبطال أمثال الشيخ صالح العلي في الشيخ بدر، وحسن الخراط وإبراهيم هنانو، واشترك في هذه الثورة جميع أبناء الشعب الذين رشحوا المجاهد سلطان باشا الأطرش قائداً عاماً للثورة السورية الكبرى.
وفي لقاء أجرته صحيفة ألمانية مع هذا القائد البطل بعد الاستقلال قال فيه: “لا يوجد حجر إلا وقبلته حوافر خيلنا.. ولا توجد حفنة من تراب لم تُروَ بدمائنا.. ولكل مجاهد فينا قصة يرويها عن البطولة والشهادة والفداء”. حينما زار الرئيس جمال عبد الناصر دمشق أيام الوحدة التقى مع المجاهد السلطان باشا الأطرش بعد أن سمع بنضاله العنيد ضد الاستعمار الفرنسي، وعرض عليه الرئيس عبد الناصر أن يكون والياً على جبل العرب فرفض هذا المجاهد العرض، وقال له “يكفيني ياسيادة الرئيس أنني قمت بواجبي تجاه وطني بإخلاص”.
لقد اقتنع الفرنسيون بأن الشعب السوري لن يرضخ، وسيواصل نضاله إلى أن يتحقّق الاستقلال الكامل وكان له ذلك في 17 نيسان عام 1946. واليوم ما أحوج هذا الوطن المقاوم إلى استعادة الروح النضالية، للمعاني السامية، لعيد الجلاء الذي أنجزته بطولات شعبنا وقادته المناضلين ضد الفرنسيين أمثال يوسف العظمة، وصالح العلي، وإبراهيم هنانو، وأحمد مريود، وحسن الخراط، وعلى رأسهم سلطان باشا الأطرش. وما أحوج الشعب والجيش المناضل في هذه الأيام إلى استعادة الروح والمعنى لهذا الجلاء في هذه الظروف العصيبة التي يواجه فيها هذه الأزمة، ومؤامرة الأعداء الذين باتوا على قناعة ومعرفة تامة بأن سورية شعباً وجيشاً وقيادة لم ولن تركع أو تنحني، وستخرج من هذه المؤامرة الكونية أكثر قوة وعزيمة وتماسكاً نحو النصر كما انتصرت على المستعمرين الفرنسيين وكان الجلاء عيداً لسورية.