دراساتصحيفة البعث

أمريكا تغرق في فنزويلا هذه المرة

 

د. رحيم هادي الشمخي

أكاديمي وكاتب عراقي

تعددت الحروب الأمريكية في العالم من أجل الهيمنة على مقدرات الشعوب المحبة للحرية والسلام، ولاسيما بعد حرب فيتنام الطاحنة التي منيت فيها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها بخسارة فادحة، ثم ما فعلته هذه الدولة الامبريالية في أفغانستان، والعراق، وسورية، ودعمها للتحالف ضد اليمن الذي دمر فيه الزرع والضرع والحجر، وأحرق حضارة اليمن السعيد، أمريكا هذه المرحلة، وبعد خسائرها الفادحة في العراق وسورية نتيجة للضربات الموجعة للجيش العربي السوري، وخيبة أملها مما يسمى بالمعارضة السورية، راحت تجر أذيال الهزيمة إلى فنزويلا، وتهدد بمساندة ما يسمى بالمعارضة الفنزويلية، رغم وجود الحكومة الشرعية التي يقودها نيكولاس مادورو، وبذلك ترتكب أمريكا أكبر جريمة سياسية في العصر الحديث لكونها دولة راعية للإرهاب، ما يهدد لائحة حقوق الإنسان، وسيادة الشعوب المحبة للحرية والسلام على أراضيها، وما يزيد الطين بلة أن الرئيس الأمريكي ترامب لا يعرف شيئاً عن مبادىء الشرعية الدولية في حماية الشعوب المستقلة، فهو يقرر ما يريد وفقاً لمعايير شريعة الغاب الأمريكية في انتهاك حقوق الشعوب ذات السيادة على أراضيها أولاً، وهو لم يدرس قوانين السياسة الدولية في احتلال الشعوب الآمنة ثانياً، وهو الرجل الذي يمتلك إمكانية ابتزاز ثروات الدول دون مسوغ ثالثاً، ولذلك فإن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية هذه المرة للسيطرة والهيمنة على الثروات والطاقة في فنزويلا، الدولة المستقلة، تكون لها نتائج وخيمة وكارثية، وكما قال سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي بهذا الصدد: التدخل الأمريكي في شؤون فنزويلا سيكون كارثياً إذا قامت أمريكا بالعدوان على فنزويلا.

ومن هنا فإن أمريكا في عملها هذا تستخدم أساليب غير عقلانية في التعامل مع الشعب الفنزويلي الذي يرفض التدخل في شؤونه الداخلية، والاستحواذ على الشرعية التي يقودها الرئيس مادورو الذي انتخب من قبل الطبقات الكادحة، وحكم باسم الشعب الفنزويلي.. إن التمدد الأمريكي تجاه شعوب العالم بالقوة يذكرنا بهزيمة هذه الدولة الخرافية في العراق وسورية، وعديد الإحصاءات تذكر القتلى والجرحى من الأمريكيين، ففي العراق وحده بلغ عدد القتلى (4967) جندياً قتيلاً، و(62153) جريحاً، حسب إحصائية البنتاغون الأمريكي، لكن المراقبين في العراق والعالم يشككون بهذا الرقم الذي يفوق بكثير.

لقد أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية رسائل كثيرة إلى الشعب الفنزويلي حول الانضمام إلى المعارضة التي يقودها خوان غوايدو الموالية لأمريكا لكي تخلق البلبلة والفوضى، والعصابات لزعزعة حكم الشعب في فنزويلا، لكن الشعب الفنزويلي بإرادته الوطنية، وعمق انتمائه لبلاده سوف يجبر أمريكا على التقهقر، لأن العالم عرف نواياها في زعزعة الأمن والاستقرار في دول كثيرة، ولاسيما في منطقة الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، ليستفيد اللوبي الصهيوني في أمريكا في دعم “إسرائيل اللقيطة”، بالعدوان على العرب بصورة خاصة، وعلى شعوب العالم بصورة عامة، فمن اعتراف ترامب بالقدس الشرقية عاصمة للكيان الصهيوني، إلى قطع المساعدات عن الشعب العربي الفلسطيني الأعزل، إلى قيام تحالف عربي يضم دولاً عربية و”إسرائيل” لضرب المقاومة العربية التي تقودها سورية لمقاومة الكيان الصهيوني الغاصب، والاحتلال الأمريكي.

فنزويلا التي أكدت التزامها بالقانون الدولي، واحترام حقوق الإنسان، وتطبيق النظام الديمقراطي، ورسم خارطة الشعوب المناضلة، ووقوفها إلى جانب الحق العربي في فلسطين ضد الاحتلال الصهيوني، والتي رفضت احتلال العراق وسورية من قبل أمريكا، والحرب على اليمن، وتخريب الدولة الليبية، هي فنزويلا التي ستقف بكل قوتها وجبروتها الشعبي والعسكري ضد أزلام العدوان الأمريكي، ونوايا ترامب لاحتلال أرضها، وستكون السبّاقة لفضح المشروع الأمريكي الهادف للسيطرة على ثروات الشعب الفنزويلي، وبصورة خاصة النفط الذي تريد أمريكا السيطرة عليه بالقوة، وفرض الأمر الواقع عليها، وترامب الذي فقد هيبته في سورية والعراق، وخسر الرهان في مشروع الشرق الأوسط الكبير، سوف يغرق هذه المرة في فنزويلا التي لا مفر من خروجه منها، وعندها سوف يكون الثور الأمريكي الهائج ترامب تحت أقدام الشعب الفنزويلي العظيم.

القرن الحادي والعشرون يبدأ من فنزويلا

هيفاء علي

بدأ القرن التاسع عشر عام 1815 وانتهى عام 1895، والقرن العشرين من عام 1918 حتى عام 1991. وما يحدث في فنزويلا اليوم ربما يمثل بداية القرن الحادي والعشرين ونهاية الفترة الانتقالية برأي المحللين السياسيين وخبراء السياسة.

فقد انتهى القرن العشرون عام 1991 بتفكك الاتحاد السوفييتي. بعد ذلك بدأ قرن من الزمان اعتبره البعض سريعاً كنموذج جديد: النصر النهائي لاقتصاد السوق والقهر الاجتماعي لشعوب العالم من خلال آلية العولمة. كل هذا تحت راية القوة الأمريكية المفرطة التي فرضت هذا النموذج الاقتصادي والاجتماعي على العالم بالقوة. استمر هذا النموذج حوالي خمسة عشر عاماً، لأن بعض المثقفين قد رأوا بالفعل نقاط ضعف هذا التحليل. في عام 2002 نشر إيمانويل تود كتاباً بعنوان “بعد الإمبراطورية”. تقول الجملة الأخيرة من الكتاب: “إذا استمرت أمريكا في رغبتها بإظهار قوتها فإنها ستنجح فقط في الكشف عن عجزها للعالم”.

أطلق الأمريكيون مشروعهم لتشكيل العالم على طريقتهم الخاصة: الثورات الملونة (جورجيا في عام 2003، أوكرانيا في 2004، قيرغيزستان في عام 2005…) حروب مفتوحة ضد دول ذات سيادة (العراق في عامي 1991 و2003، وليبيا في 2011، وسورية في 2011، واليمن…) بحجة أنها بحاجة إلى الديمقراطية، حيث سارع محررو الصحف والسياسيون إلى التقاط هذا الخطاب وتبنيه على أكمل وجه. في هذا القرن تتجلى بداية الصعود الهائل لمنحنى ستيوارت كوفمان في عام 2008، حيث وقعت الأزمة المالية التي شهدت سقوط بنك “ليمان براذرز”، وحددت نقطة انعطاف هذا المنحنى في 3 أيلول 2013 عندما اعترض صاروخان روسيان من طراز S-300 صاروخين أمريكيين أطلقا على سورية في شرق البحر المتوسط.

على الطريق إلى المستقبل

في 12 نيسان 2014، وقع حادث استهداف المدمرة الأمريكية يو إس إس دونالد كوك في البحر الأسود، وكانت مجهزة بأكثر أنظمة الدفاع الجوي فعالية في العالم من قبل طائرتين روسيتين من طرازSU-24 كشفت هذه الحادثة تفوق الروس على الأميركيين من حيث الحرب الإلكترونية، أي تفوقهم العسكري العام. وتفوق الحرب الإلكترونية شرط أساسي للتفوق الجوي الذي هو بحد ذاته شرط أساسي للعمليات السطحية والذي أثبت فعاليته في العمليات العسكرية الروسية في سورية.

خلال سير العمليات في سورية، ظهر اتجاه الخط المقارب تدريجياً: إعادة تشكيل العلاقات الدولية، إعادة تأكيد سيادة الدول، بداية نهاية المماطلة التركية، إشارة إلى القانون الدولي الذي تفرضه روسيا، نزع الدولرة عن المبادلات التجارية العالمية، تشكيل احتياطيات الذهب في مختلف البلدان. كل هذا على الرغم من المحاولات الأمريكية المنهجية لمعارضة هذا التطور العكسي مع التهديدات بفرض العقوبات الاقتصادية المتخبطة.

لكن هذا المنحنى، الذي يبدأ من التسطيح، يرتفع بشكل كبير ويستقر في خط مقارب، يتخللها أحداث مميزة. إذا كان سقوط “ليمان براذرز” هو بداية المرحلة الأسيوية، وإذا كان 3 أيلول 2013 هو نقطة انعطاف المنحنى، فقد تكون الأحداث الراهنة التي تجري في فنزويلا علامة على بداية الخط المقارب، وبالتالي البداية الحقيقية للقرن الحادي والعشرين.

بعد إعادة انتخاب نيكولاس مادورو في فنزويلا حاولت الولايات المتحدة الإطاحة بالرئيس المنتخب شرعياً من خلال دعم الانقلاب الذي قاده رئيس البرلمان غوايدو، ليبدو أن الانقلاب المؤسسي هو أسلوب العمل الأمريكي الجديد للإطاحة بالحكومات كما أظهرت السابقة لإقالة ديلما روسيف في البرازيل في الفترة 2015- 2016.

ولكن في مواجهة هذا التدخل الجديد، تقول روسيا والصين هذه المرة “لا” وتقدمان الدعم العسكري للرئيس الفنزويلي بطريقة وقائية. وكل هذا في قلب المروج الأمريكي وفق ما تم تعريفه في عام 1823 في عقيدة مونرو.

من الواضح أن البنتاغون لم يكن يتوقع مثل هذا الرد من قبل الروس والصينيين ، حتى لو كان متواضعاً في الوقت الحالي، وتأثير المفاجأة تحول ضده. ومع ذلك إذا أقدمت روسيا والصين على نشر قواتهما في فنزويلا، فذلك لأنهما تثقان في قدرتهما على السيطرة على الموقف، والحد من دائرة العنف والفوز إذا انتهت المعركة. وحتى الآن تشمل المساعدات العسكرية الروسية والصينية لفنزويلا العناصر التالية: نشر أنظمة S-300 حول مواقع مهمة، بما في ذلك المطارات، لمواجهة الغارات الجوية المحتملة. واحتمال تكثيف قاعدة جوية روسية في فنزويلا، بموجب اتفاقات ثنائية بين البلدين. والإسراع في تدريب الطيارين الفنزويليين على طائرات الهليكوبتر من طراز Mi-17V-5 و Mi-35 و Mi-26T كجزء من حرب ضد حرب العصابات لعرقلة التسلل المحتمل لميليشيات من كولومبيا. واحتمال نشر رادار تجريبي روسي. وأخيراً نشر 120 جندياً صينياً في جزيرة مارغريتا لتوزيع المساعدات الإنسانية، مع وجود متخصصين في الحرب الإلكترونية.

الفواصل التكنولوجية

في 16 آب 2016، أطلقت الصين في المدار أول قمر صناعي تجريبي يهيئ ظهور الاتصالات التي لا تنتهك بحلول 2020- 2030. في الآونة الأخيرة، أعلنت كل من الصين وروسيا عن تطوير رادار الكم التشغيلي. وإذا أضفنا تصريحات فلاديمير بوتين في الأول من آذار 2018 حول الأسلحة الروسية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، فيبدو أن روسيا والصين قد تخطتا عتبات تكنولوجية مهمة واكتسبتا فيما يتعلق بالتكنولوجيا العسكرية، بعض التقدم قياساً إلى الدول الغربية. الأمر الذي يفسر الهدوء والإتقان اللذين يتعاملان به مع نيكولاس مادورو باسم القانون الدولي.

فبينما كان الرأسماليون الغربيون المهووسون بالمكاسب القصيرة المدى يدمرون الطبقات الوسطى في بلدانهم ويقومون بخصخصة الخدمات العامة، خاصة خدمات التعليم والبحث، فقد حولوا الجامعات والكليات المرموقة إلى آلات تكاثر اجتماعي داخلية، بينما على الجانب الآخر من العالم وفي نفس الوقت استثمرت الحكومات الإستراتيجية في التعليم والتدريب والبحث، في ظل زخم دولة تحدد الأولويات وتخصص الموارد.

نهاية المرحلة الانتقالية

هكذا يوضح الموقف الصيني الروسي إزاء القضية الفنزويلية أن روابط القوى الجيو-سياسية قد تغيرت في السنوات الأخيرة، ويبقى انتظار ما سيكون عليه الموقف الأمريكي على المدى القصير والمتأرجح بين الغضب وتلميحات التفوق والعقل. إذ لا يبدو دونالد ترامب جيداً في العلاقات الدولية، خاصةً أنه محاط بثلاثة من المجانين الغاضبين للتعامل مع هذه المسألة: جون بولتون، ومايك بومبو وإليوت أبرامز.

فهل سيعود العقل والمنطق إلى البنتاغون؟ أم إن صراخ المجانين سوف ينكمش مثل البالون؟ حقيقةً، هناك شيء واحد مؤكد: تُقاطع القضية الفنزويلية بوضوح المرحلة الانتقالية التي تقترب من نهايتها وتفتح الطريق أمام نموذج جديد للعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين. وهذه أيضاً أخبار سارة لمعركة “السترات الصفراء”.