ثقافةصحيفة البعث

بســـاطة ماتعـــة وحـــزن دافـــئ فـــي ضيافـــة “ملـــل”

 

غير حادث وحديث.. أقوال وأفعال.. شعاب ودروب.. أزمان وأماكن.. وأحوال ومعانٍ، تتوارد مخيلتك وتتضايف أفكارك؛ لدى انفرادك بقراءة “ملل” لكاتبها “محمد شعبان”. تاركةً في نفسك مشاعر وانتيابات شتى. بعيداً عن كل ما من شأنه، أن يصبَّ في طاحونة الملل أو يدور على رحاها.

مع رواية ملل، تترجع إليك صور وذكريات متنوعة، وتتولّد فيك ألوانٌ معانٍ وأماني. تتذكر ديوان “بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس” للشاعر رياض صالح الحسين..

تعود لحلقات مسلسلي “ضيعة ضايعة” و”الخربة” للأديب ممدوح حمادة.. وتتخاطر انطباعاتك المباشرة عن الرواية، مع فيروزيات عدّة، إضافة لما اشتملته الرواية من أغاني فيروز، التي قال فيها أحدهم: أراد الله أن يغني، فخلق فيروز.

-1-

أن تتكلم، بيسر ودقة وشفافية، عن أعوص المشاكل، وأكثرها قرباً من المسكوت عنه والمُحرّم، في مجتمعك. فلا شك أن ذلك لعلى جانبٍ من الجرأة والمسؤولية والكفاءة في آن. (يستطيع الأخرس أن يشتم منْ يشاء من أهل دمشق، حتى وزير الداخلية نفسه. دون أن يلقى عقاباً من أحد.. أية نعمة هذه!)  و(في بلادنا لا يجرؤ الخطأ على التعاطي مع السجلات الرسمية).

ولكن.. من يقول، إن حالك ستكون أخفّ وطأة، حين تتصدّى: إبداعياً، بيسر ودقة وشفافية، لمواضيع عادية وبسيطة، وأكثر ملامسة من قبل السواد الأعظم؟

كأني بالبساطة وقد تحررت يوماً، بقصد التفكهة والفنتازيا، من جسديتها الآسرة “إعجاباً للغير وحبساً للذات”، ومن قميصها الكلموي “من كلمة”. لتتجسد عن طريق الحلول أو التقمص، صبيةً: فإذا هي، بجمالها الطبيعي، من أروع النساء، وأقلهنّ تكلّفاً، صبية كـ”سميرة الحورانية”.. (وهي تجرجر ثوبها المخملي الأسود وراءها. تشبه قمراً هذه الشغالة..)..

تجسدت فكرة

فإذاها، في أذكى الروايات، كي لا نقول أكملها “موضوعاً، معالجةً، وخطاباً”. مع احتفاظها بسوية فنيّة بائنة، ودون التخلي عن بنات نعش السرد، سيرورة وصيرورة.. (أخذت أختي الصغرى التفاحة وهربت بها إلى المطبخ.. كدّت أطقّ.. كرهتها؛ أختي وليست التفاحة! ثم عندما كبرت دفعني الندم إلى محبة زائدة لهذه الأخت.. سقطت دمعة من عيني.. لقد ماتت أختي قبل أن أطلب سماحها وأعتذر منها..).

-2-

تتخفف رواية “ملل” من كل ما يعجق قارئها، ويثقل كاهلها، من شخصيات وثيمات. مكتفية من الشخصيات بـ: “مازن الشومري”، أبو فاضل، رب أسرة متقاعد. أخذ التقاعد منه – كما يقول – أشياء عزيزة، أهمها الحلم به، ولم يعطه غير الملل. “فاديا أوغلو”، زوج مازن وأم أولاده، عمرها قريبٌ من عمره، مدرّسة محاسبة في الثانوية التجارية، ومتقاعدة مثله أيضاً.

“سميرة”، شغالة شابة وجميلة، تعمل في بيوت من منطقتي “الشعلان” و”الروضة” في دمشق، من ضمنها بيت مازن الشومري وصديقه أبو جابر. الشغالة التي تارةً يراها مازن حجلة بريّة، أشبه ما تكون بتلك الحجلة التي فرت من أمامه، عندما كان صغيراً برفقة والده، في واحد من مشاوير الصيد في منطقة اللجاة في السويداء. وتارة.. (يراها كلها، ملفوفة بالمخمل لا يظهر منها إلا أصابع الأيدي الندية والوجه الشهي! أحب الملفوف.. منذ صغري أموت فيه.. مطهواً وفي السلطة. وأنا على استعداد الآن لأن أعصره وأشربه كدواء لا شفاء لي منه إلا فيه! وهذا الغموض الذي يوحي به اختفاء الأوراق تحت بعضها يجعل كل ورقة تغريك بأختها، فتموت إغواء قبل أن تصل إلى اللب..).

ومن الثيمات بـ:

حال المرء بعد إحالته على التقاعد. وما يستجد عليه من منغصات، ويعتور حياته من استهدافات السيدة ملل وسائر أفراد أسرتها، مما يستشري شيئاً فشيئاً في حياة المستهدَف. إلى أن يُفرغها من نفسها. لاسيما إذا كان المتقاعد، كمازن، مُبتلاً بزوج كـ”فاديا” (المتخصصة به منذ غادره عقله، وانشغل بها عن دراسته الجامعية قبل حوالى أربعين عاماً). والتي يقول في معزته لها: (إنها لو رأتني في بحر الوحل، لما رفعتني منه إلا للحظة، ليراني الناس ملطخاً بالوحل، ثم ترميني فيه لأغطس!).   مع كل ما يكتنف حياة “ملل” من أسباب وجع، ويعتريها من ضروب أسى. آلت جميعاً إليها، من حياة بطليها – مازن وفاديا – اللذين تكفلت نار الغيرة والخلاف بتأثيث بيتهما الزوجي. فقد انتقلت حرارة تلك النار، بوساطة خفة دم ورشاقة أسلوب الروائي، إلى المتلقي، حزناً دافئاً:

يرفع ضغط المسؤولية.. لكن لا يغيّب الوعي.

ويلذع صور المحبة.. لكن لا يكوي القلب!.

-3-

على الرغم مما تحققه العتبات: العنونات الفرعية، الإهداءات،الترويسات، وغيرها من الأعمال الأدبية التي تستضيفها؛ من تمكين لغايات كتّابها، وما تسبغه عليها من رتوشات، قد تَسهُم – على تواضع حجمها – في اكتمالية اللوحة النهائية للعمل، نصاً وروحاً. في حال كان توسّل تلك العتبات في مكانه.

على الرغم مما أنف ذكره، فقد حرص “الشيف شعبان” كما في أكثر طبخاته، أن يقدم لنا طبقه الروائي، منفرداً وصرفاً على مائدته الأدبية. وغير خافٍ على هواة التغذية وذوّيقة الطعوم، ما يعنيه تصرفه من ثقة بطيب طعامه أولاً، وبحسن تذوّق ضيوفه ثانياً. ما لا يتعارض مع احتمال أن يكون “شعبان” قد دسَّ “زوم” توابل عتباته، في “مرقة” طبخته!.

* الرواية – ملل /216 ص/ 20 سم. الروائي – محمد شعبان. الناشر – الهيئة العامة السورية للكتاب لعام – 2009 م.

حسني هلال