ثقافةصحيفة البعث

أســــــــود حالــــــــم

كان اللون الرسمي بالنسبة له، لون المناسبات على اختلافها، الفرح أو الحزن لا فرق عنده، لأن كليهما يكشفان الوجوه على حقيقتها، ثقافة الحزن وطقوسه لا تقل أهمية عن ثقافة الابتهاج.

كانت الشمس تميل للغروب إلى مستقر آخر، دورة جديدة وإشراقة على النصف الثاني من الأرض، على وجوه تنتظر بفارغ الصبر حضورها لغايات مختلفة. أمّا هو فلم يكن يتأثر بالعوامل الطبيعية، الغروب والمطر وقوس قزح  كلها مظاهر لا يربطها بأي مشاعر رومانسية أو ذكريات تقاسمها يوما مع أحد ما. كان جادا لدرجة أن التجاعيد ظهرت في وجهه باكرا، أي قبل أوانها على اعتبار أنه شاب في عزّ شبابه. لكن يبدو أن العزّ المنتظر لم يأت بعد، لا في الطفولة ولا المراهقة ولا الآن، أمّا في الكهولة فلن يكون في حاجته على الإطلاق، وظائفه الفيزيولوجية لن تساعده حينها على الاستمتاع بالعزّ المزعوم.

اليوم جمعة، وهذا اليوم لا يحبّ أن يحسبه على الروزنامة، إنه يوم الهدوء الغبي والمشاريع الفاشلة، يوم للتذكير بأن ما من شيء ينتظره ليرفه عن نفسه كما يفعل أقرانه في القسم الآخر من الكرة الأرضية، لا رحلات ولا حفلات شواء ولا شمسية مثيرة على شاطئ ما، باختصار هو يوم لسماع مشاكل الجيران وقت الإفطار على صحن الفول والحمص، وكأنه التوقيت الرسمي للجميع. جارته التي لم تعد تطيق العيش مع زوجها الموظف لا تختلف عن تلك التي ستتزوج برجل يكبرها بثلاثين عاما لتهرب من هول ما يحيط بها. الأمر تقريبا نفسه مع مدرّسة اللغة العربية التي لا صبر لها في إعطاء المزيد من الدروس الخصوصية، “اللغة كلها على وشك الانفجار..” هكذا سمعها تقول. أمّا الذكور من جيرانه فيبدو أنهم كانوا أهدأ قليلا باستثناء ذاك الذي يطلب حصته من الميراث من أبيه الذي يرفض أن يبيع دونما واحدا من الخمسين المتبقين، “الأرض لا تباع يا ولد” على حد قوله.

صعد إلى السطح لعله يحظى بأكسجين نظيف، كانت الطوابير على بعد أمتار منه  تكتفي بالانتظار فقط. تأمّل المشهد قليلا وحمد ربّه على أنه لا يملك أي وسيلة للنقل ومكان عمله قريب من المنزل، ثم قطع شروده صوت بائع جوال ينادي ببضائعه المعلقة على جانبي سيارة نقل صغيرة “ملابس وجوارب ومناشف، برتقالي ليموني يا عيوني، أبيض فل يا ست الكل، أسود حالم يا عالم”. وهنا استوقفه الصوت، أسود حالم؟ لماذا لم يقل حالك، إنها صفته المناسبة، لون الليل والحداد والمناسبات، لونه المفضل هو في كل الأشياء التي يقتنيها، لكن بماذا سيحلم الأسود وكل ما حوله أسود منه؟ حتى حقه في الحلم مسلوبا بقرار مضى على توقيعه سنين طويلة والآن قرروا الاعتراف بذلك. لا شك أنه خطأ لغوي من المصدر- أي البائع – ولو سمعته الجارة مدرسة اللغة العربية لكانت أخرجت رأسها الذي لا يتناسب مع حجم جسدها الصغير من الشباك وصرخت به: “ويحك يا رجل أسود حالك وليس حالما”، ألا تعلم أن الألوان لا تحلم في هذه البلاد؟.

نـدى محـمود القيـم