الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

خرائط الكفاف!؟

 

د. نهلة عيسى

يفزعني التلفاز هذه الأيام!؟ قصف كلامي وراجمات “تحليل سياسي” مستفز، تنهمر كالأسيد على آذاننا وعقولنا وجروحنا، تستسهل استخدام كلمة “انتصرنا” بمعنى وبلا معنى، وفي سياقات مختلفة ومتعارضة، وأحياناً خارج أي سياق، لتزرع ألف تساؤل ودهشة على وجه الواقفين على طوابير الكفاف مما آلت إليه أحوالنا بفعل المتاجرين بالكلام الذي بات مطاطاً لسراويل خيباتنا، ربما يستر عورة، ولكنه يكشف ألف عورة!؟
“انتصرنا”، كلمة تبدو على أفواه المحللين، وكأنها تعليق عابر على نص عابر، أو صيد في الدماء، يصادر حقنا في التعامل مع واقع يؤكد لنا أننا صمدنا، ولكن بيننا وبين النصر دول كبرى، ومؤامرات كبرى، ومصالح كبرى، والموجع أننا ونحن في احتراقنا، “سادة الثرثرة” ومنبر عاجي (والعاج لا يحترق)، كلما فقدنا شهيداً، أو تهدمت بيوتنا، أو احترقت قلوبنا، أو قلت حيلتنا، نثروا الكلام “نصراً” فوق رؤوسنا، وكأننا لابد أن نجوع، ونموت، ونحترق، لننتصر!؟.
يقتلني ذلك، ولكنني أعود لأتذكر، أن كل هذا الهراء، مجرد قمامة حرب، يحولها البعض إلى ملاحم كلامية يبحثون فيها عن تفسيرات أخلاقية، وروحية، وربما جمالية للوجع، بل بالأصح للبشاعة، التي نعيش فيها، نحن الذين لم نغادر الوطن، ولم نُحمّل أحداً جميل بقائنا، بل عايشنا الحرب علينا لحظة بلحظة، وشهيداً تلو الآخر، وطابوراً بعد طابور، وخيبة تجر خيبة.
عايشنا وتعايشنا، ولكن لا أظن أن العقلاء منا، اعتبروا أن ما يجري لنا وبنا، بركة وهبة من الرب يجب أن تدبج فيها القصائد، بل أظنهم يجدون في هذه الملاحم الشاعرية، نوعاً من العجرفة الإيديولوجية، والمزايدة الوطنية، والتزييف لمشاعر أغلب الناس الذين وإن كانوا يتعالون على الجروح بالزغاريد، وعلى الشهقات بالبسملة، إلا أنهم لا ينكرونها، ولا ينظرون إلى مآسيهم، على أنها مجرد كرنفال رعب عابر سينتهي بخلع الأقنعة، وتبادل القبلات، والاحتفال بالنصر المزعوم.
تعايشنا واحتملنا وسنحتمل، ولكننا نكره السياحة فوق جروحنا وبؤسنا، وتعف آذاننا عن تسويق ما يحدث لنا، باعتباره حيوية وطنية، ونهوضاً حضارياً، ونعمة إلهية، كما عفت قلوبنا من قبل، عن كل قائل استمات في تصوير ما يحدث من مذابح ومجازر، على كونه ثورة أو حرية! لأن من يتغزل دون أن يدري، يروج للفوضى والدمار والخراب، ويجمّل حفلات التعذيب والخطر التي نعيشها كل لحظة، لتبدو وكأنها ولادات تاريخية، وهي انحطاط إنساني غير مسبوق تاريخياً، وغير مبرر، ولن تغطي القشور الشعرية رائحة العفونة فيه.
تعايشنا، ولكننا نكره ذلك، ونشعر بالغصة والغضب على آلاف الشهداء أن تختلط جثامينهم بجثث الكلام الغث، كما تخنقنا الدموع ونحن نتذكر كيف فقدنا في السنوات الأخيرة أجمل وأنقى ما فينا، بحيث ضاعت المعايير، وصارت التهم والألقاب توزع جزافاً، هذا خائن، والآخر ثائر، والوطني خائف، والإرهابي طليق، وإسرائيل تعيث فساداً في بلاد العرب أوطاني، والجولان بات مركزاً تدريبياً ثلاثي الأبعاد على أهداف في كل الوطن.
“انتصرنا”، باتت “كليشيه” شبيهة بالمقصلة، لتسويق الخوف من الحقيقة، ولتعويم الأخطاء، ونزع مخالب الجرأة، وترقيع الجروح النازفة، وسترها بحروف بيضاء محايدة، منشاة، خانقة، كياقات قمصان السهرات، حيث الإيهام بالفخامة والأهمية هدفاً، بغض النظر عن حال المشنوق والمخنوق بها، وبغض الحياء عن كل إشارات التعجب والاستفهام، وماذا ولماذا؟.
“انتصرنا”!؟ فماذا يفعل أمثالي ممن لا (يتعظون)، وفشلوا في قطع شريان الصدق مجاراة للمتنطعين، وتخلوا عن كل إغراء آخر في الدنيا، سوى إغراء العلن، إغراء النور، في وقت سدت فيه قصائد ادعاء النصر كل طاقة وكل نور، وصار الموت قهراً، السبيل الوحيد للنصر؟!.
ماذا نفعل والقصف الكلامي يزور واقعنا ومشاعرنا وزغاريدنا، ويكدس الحروف جثثاً، ويلوي عنقها وسياقاتها، ويرمي بها في وجوهنا، مصراً على أن نصدّق أن خرائط الكفاف يمكن أن تكون وطناً، ونصر نحن على إشاحة آذاننا عنهم مادام الصمم.. الزاد الوحيد المتاح لنا، بانتظار أن تتوقف الثرثرة، حتى حقاً ننتصر.