دراساتصحيفة البعث

أرمـن حلب… تغريبة فينيق عظيم

 

علــــــــــــــــي اليوســــــــــــــــــــــف

في ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن التي انطلقت في 24/4/ 1915 على يد العثمانيين أحفاد الدولة السلجوقية، والتي راح ضحيتها أكثر من مليون ونصف أرمني، يعيش الأرمـن اليوم -عدا عن أرمينيا التي يقطنها حوالي ثلاثة ملايين ونصف- شتاتاً يتوزّع في مختلف دول العالم، تأتي على رأسه روسيا، التي يقطنها قرابة المليونين ونصف أرمني، وأمريكا التي يقطنها المليون ونصف، يتوزع الباقون على دول فرنسا، إيران، جورجيا، والأرجنتين، وفي سورية ولبنان.
قبل آذار 2011 عاش الأرمن كغيرهم من مكوّنات الشعب السوري، حالة تعايش سلمي، كانوا خلالها، وخاصة في حلب، من كبار الصناعيين والحرفيين والتجار، إضافة إلى إسهاماتهم المتميّزة في كل مناحي الحياة السورية، لكن بعد آذار 2011 تغيّرت الصورة، وكأنه كُتِبَ على هذا الشعب أن يعيش تغريبته مرّتين.
خلال الحرب على سورية تعرّض المسيحيون للكثير من الضغوط وحملات الترهيب، وصلت حد التهجير القسري من بعض المناطق، وقد تركت هذه الحرب آثارها على الأرمن السوريين كباقي مكوّنات الشعب السوري، ودفعتهم لتغريبة ثانية بعد تغريبتهم الأولى.
لكنَّ أكثر حدث أثّر في السوريين الأرمن وآلمهم، هو إقدام تنظيم “داعش” الإرهابي المدعوم من النظام التركي على تفجير كنيسة شهداء الأرمن في مدينة دير الزور في 21 أيلول 2014. وقد لقي تدمير الكنيسة إدانة عالمية واسعة النطاق، واعتبر هذا الاعتداء على الأماكن المقدّسة دليلاً آخر على الطبيعة الهمجية لتنظيم “داعش” الإرهابي، كما أنه تتمة لتدمير عشرات الآلاف من النصب التذكارية الأرمنية.
لاشك أن الأرمن في حلب عانوا من تدمير المعامل والمنشآت الصناعية والتجارية جرّاء الإرهاب الذي طال المدينة، فاضطر الكثيرون لمغادرة حلب إلى وجهات مختلفة. نعم إنها تغريبة جديدة، ولا يمكن أن نغفل قافلة الشهداء من السوريين الأرمن، العسكريين والمدنيين، وكذلك الجرحى الذين كانوا ضحية الحرب على سورية.
لقد عانى السوريون واللبنانيون والأرمن والسريان مصيراً واحداً على يد العثمانيين، والجميع لاينسى رحلة “السفربرلك” والجوع والحرب التي خلّفتها العثمانية التركية، وكيف عُلِّقَت مشانق السوريين واللبنانيين، وخلال سنوات الحرب على سورية شوهدت تجلّيات الإبادة الأرمنية، من خلال مذابح أخرى وانتهاكات ضد الشعب السوري، من قطع رؤوس وذبح، أساليب انفردت بها الإمبراطورية العثمانية، كالهجوم الذي جرى من تركيا على بلدة كسب ذات الأغلبية من المواطنين السوريين الأرمن والتي لها اعتباراتها التاريخية.
ورغم ما تعرّض له أرمن حلب من إبادة وتهجير إلا أن الأرمن في الشتات حافظوا على هويتهم وثقافتهم السورية، وانطلقوا مثل طائر الفينيق، وعلى رجاء تجديد الأمل والعودة إلى حلب التي ستصبح رمزاً لإعادة الحياة والأمن بجهود مشتركة بين كافة أبنائها، حيث سيشمل ذلك إعادة بناء كل المعالم الدينية المسيحية منها والإسلامية على حدّ سواء.
يرجع وجود الأرمن في حلب إلى مئات السنين، لم يعرف بالتحديد تاريخ وصولهم لحلب. وأقدم ذكر لوجودهم يعود لسبعمئة عام على حاشية مخطوطة أرمنية ذكر فيها أنه تم نسخها في عام 1329م بحلب في كنيسة السيدة بحارة الصليبة
” الجديدة”، وهي كنيسة أرمنية قائمة حتى الآن.
شكل الأرمن في حلب قوة صناعية وتجارية وعلمية مهمة، وكان قد انتخب منهم التاجر مانوك قراجيان في مجلس “المبعوثان الأول”، وهو المجلس النيابي في السلطنة العثمانية عام 1877 م كأحد النواب عن ولاية حلب.
كان للأرمن مدرسة رئيسية تسمى مدرسة نرسيسيان في حي الصليبة “الجديدة”، وعدد طلابها في الفترة ما قبل عام 1915 م حوالي سبعمئة طالب. خلال الحرب العالمية الأولى في عام 1915م وصل لحلب النازحون الأرمن من مناطق مختلفة من كيليكيا شمالي حلب تمهيداً لنقلهم من قبل رجال السلطنة العثمانية إلى دير الزور والجزيرة السورية.
استطاع بعض المهاجرين الأرمن البقاء في حلب مختبئين عن عيون السلطات العثمانية. حضنهم الحلبيون ومدوا يد المساعدة لهم، ويعترف الأرمن في أدبياتهم بالجميل وبكرم الضيافة الذي قدمه الحلبيون لإخوتهم الأرمن النازحين.
لم يبنِ الأرمن في تلك الفترة أي حي خاص بهم خلافاً لما يذكره بعض الباحثين الحلبيين، فهم كانوا تحت تهديد السلطة العثمانية ولا يمكنهم أن يظهروا على الملأ.
عندما انتهت الحرب العامية الأولى وسقطت السلطنة العثمانية، دخل الجنود الفرنسيون إلى كيليكا فسارع الأرمن للخروج من مخابئهم التي كانوا فيها خلال فترة التهجير وعادوا إلى بلادهم.
ولكن عندما اتفق الأتراك مع الفرنسيين عام 1921م على أن ينسحب الفرنسيون من كيليكيا لقاء أن يوقف الأتراك دعمهم للثوار في سورية، خاف الأرمن من التنكيل بهم فعادوا بهجرة جديدة من كيليكيا إلى سورية، ومنهم من هاجر إلى لبنان.
كان نصيب حلب من النازحين الأرمن عدداً قدره بعض المؤرخين بحوالي ستين ألف نسمة، وكان عدد سكان حلب الإجمالي عام 1921م حوالي مئتي ألف نسمة، فيكون سكان حلب قد زاد عددهم بما يعادل الربع من اللاجئين في ذلك العام.
بنى الأرمن عام 1922م أول مخيماتهم في منطقة الرام الواقعة في المنطقة التي تسمى حالياً إشارات السليمانية الضوئية. كانت أبنيتهم السكنية من الخشب، وزاد عددها على الألف براكة سكنية من الخشب وصلت حتى منطقة الميدان وحي الفيلات الحالي ومناطق بستان الباشا.
يعد قسما كبيراً من أراضي منطقة الحميدية والسليمانية من أراضي وقف الحاج موسى آغا الأميري، سكن اللاجئون الأرمن على مساحة تعادل حوالي سبعة هكتارات من تلك المنطقة تعود جميعها لوقف الأميري، وتعهدت بلدية حلب بدفع بدل إيجار الأرض عن اللاجئين الأرمن لصالح الوقف.
استطاع هؤلاء اللاجئون بناء مدارس بسيطة خاصة بهم، وكنيسة صغيرة في منطقة البراكات بمحلة السليمانية أُطلق عليها كنيسة الصليب المقدس. استطاعوا العمل وإنشاء ورشات حرفية بدائية وعرف عنهم الدقة والأمانة بالعمل.
اندمج الأرمن في حلب ضمن المجتمع الحلبي، وباتوا يشكلون جزءاً رئيسياً من سكانها، اشتهروا في مجال الأعمال الصناعية الدقيقة، استطاعوا بناء أحياء كاملة في المدينة بدلاً من براكاتهم الخشبية خلال زمن قياسي نسبياً.
وبلغة الأرقام لا توجد إحصائية كاملة حول عدد السكان الأرمن في مدينة حلب، ولكن وفقاً لتقديرات الطائفة قبل العام 2011 كان يعيش في حلب قرابة الـ 60.000 أرمني، هم في أغلبهم أحفاد أولئك الذين قدموا إلى المدينة مطلع القرن الماضي.
الأرمن في حلب اليوم ينتمي معظمهم إلى الكنيسة الأرمنية الرسولية، وبالمرتبة الثانية يأتي الأرمن الكاثوليك، وثالثاً الأرمن البروتستانت.
يسكن الأرمن في مختلف الأحياء في المدينة، ولكن تجدهم بكثافة في أحياء، مثل السليمانية، العزيزية، الميدان وغيرها، كما كان لهم حضور في الأحياء المسيحية القديمة مثل “الجديدة”.