أخبارصحيفة البعث

حَدَثَ هذا.. في دير ياسين

المستشار رشيد موعد- قاضي محكمة الجنايات سابقاً
جريمة العصر ارتكبت بأطفال ونساء وشيوخ دير ياسين. الساعة الثانية بعد منتصف الليل، في التاسع من نيسان 1948، داهمت عصابات الآرغون وشتيرن الصهيونية قرية دير ياسين العربية الفلسطينية الواقعة غرب مدينة القدس، (وقد أقام الصهاينة اليوم على أنقاضها مستعمرة صهيونية تدعى “جفعات شؤول”). شرع أفراد العصابات بقتل كل من وقع في مرمى أسلحتهم بعد أن ألقوا القنابل داخل منازل القرية لتدميرها على من فيها، وقد كانت الأوامر الصادرة لهم تقضي بتدمير كل بيوت القرية، في الوقت ذاته سار خلف رجال المتفجرات أفراد من عصابات الآرغون وشتيرن فأخذوا يقتلون كل من بقي حياً داخل المنازل المدمرة.
استمرت المجزرة حتى ظهر اليوم التالي في العاشر من نيسان، وقبل الانسحاب جمع الصهاينة كل من بقي حياً، وأطلقوا عليهم النار لإعدامهم ميدانياً أمام الجدران، وكان حصيلة هذه المجزرة المروّعة 360 شهيداً، معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال.
وبعد أن اصطدمت هذه العصابات بمقاومة عنيفة، أرادوا الانتقام من أهلها، حيث أجهزوا على الأسرى والجرحى بعد سلبهم ما لديهم من أموال وقتلوهم، وأحرقوا جثثهم بوحشية وهمجية وتركوها في العراء.
وكان على رأس منظمة “الآرغون” التي تعرف باسم “تسفي لئومي” (أي المنظمة القومية العسكرية) في هذا الهجوم الإرهابي مناحيم بيغن، في حين قاد منظمة “شتيرن”، التي تعرف أيضاً باسم “ليحي”، الإرهابي الآخر إسحاق رابين، وكلاهما تولى منصب رئاسة الحكومة في هذا الكيان تكريماً ومكافأة لهذه الجريمة.
يروي الإرهابي مناحيم بيغن، الذي قاد الحملة على دير ياسين، “لقد هاجمنا القرية بأعداد كبيرة. دافع العرب عن بيوتهم ونسائهم وأطفالهم بقوة، وكان القتال بيننا وبينهم يدور من منزل إلى منزل. وكلما دخلنا بيتاً كنا نقوم بتفجيره على ساكنيه بمادة “تي. ن. تي” التي أحضرناها معنا لهذا الغرض، وقبيل ساعات الصبح الأولى بدأنا باحتلال القرية بكاملها وتدميرها على من فيها”.
وبعد أن دخل الصهاينة القرية، أخذوا يذيعون بمكبرات الصوت داعين من بقوا على قيد الحياة: “أنتم محاصرون وعليكم النجاة بأنفسكم من المدخل الغربي للقرية، وهو متاح أمامكم إلى قرية عين كارم المجاورة”.
صدّق الأهالي العزل النداء، وخرجوا إلى طريق عين مكارم طالبين النجاة، وهنا كانت الخديعة، حيث تواجد في ذاك الطريق عدد من أفراد هذه العصابات وأمطروا الأهالي العزل الخارجين من البيوت بوابل من الرصاص.
يعود الإرهابي بيغن فيقول: “طغى الذعر والخوف والرعب بعد دخولنا القرية على العرب في فلسطين، فخشية من تكرار ذلك في القرى المجاورة، ونتيجة الرعب والخوف، سقطت قولونيا بعد دير ياسين بسهولة، وهي التي كانت ترد كل هجوم نقوم به عليها بقوة وعنف، وكذلك أخلى العرب قرية بيت إكسا دون قتال.. وقد مهّد لنا سقوط هاتين القريتين الاستراتيجيتين الاستيلاء على منطقة القسطل بعد مقتل عبد القادر الحسيني.. وهذا مكّننا من جعل الطريق إلى القدس مفتوحاً”، ويتابع: “لاحتلال دير ياسين نتائج كبيرة، فقد أخذ المواطنون العرب العزل بالفرار الجماعي من القرى والمدن لهول الحادثة، فمن أصل 800 ألف نسمة كانوا في فلسطين أصبحوا بعد المذبحة 165 ألف فقط. ما وقع في دير ياسين وما أذيع عنها ساعدنا على تعبيد الطريق لاحتلال حيفا وطبريا”.
هذا الأسلوب البربري النازي الذي استخدمه الصهاينة في مجزرة دير ياسين وصفه أحد الصحفيين الأجانب بأنه كان أغرب جرائم العصر، والهدف منه بث الرعب في قلوب الأهالي لحملهم على الهجرة وترك بيوتهم، وقد اعتبرت هذه المجزرة الحلقة الأهم في سلسلة المجازر الصهيونية التي استهدفت ترويع الشعب العربي الفلسطيني والمضي نحو الهدف الأكبر بإخلاء الأراضي الفلسطينية من أهلها وإحلال الشتات الاستيطاني مكانهم. ومازال هول هذه الجريمة النكراء تتناقله الأجيال الفلسطينية جيلاً بعد جيل.
وحينما نتوقف عند هذه المجزرة التي ارتكبت بدم بارد وبإصرار وترصد، نلحظ الشهداء العزل الـ 360 الذين قضوا، ونرى ما وصلت إليه القضية الفلسطينية، وما تمر به من ظروف على ضوء الانقسام الداخلي والحصار، وكذلك الصمت الدولي، والزمن العربي الرديء الذي يعطي عصابات الإجرام الصهيوني دفعاً للمضي في القتل والاستيطان وقضم الأراضي.
وقد اشتهرت هذه المجزرة، ولاقت تغطية إعلامية دولية، بسبب تواجد أفراد الصليب الأحمر الدولي في تلك القرية آنذاك بالصدفة، فقاموا بتوثيقها وتنظيم التقارير اللازمة في ضوء مشاهداتهم. واعتمدت وقائع وأحداث هذه الجريمة، لدى هيئة الأمم المتحدة، كوثائق. وعلى الجهات القضائية والقانونية المختصة إثارة هذه المجزرة ومجازر أخرى غيرها لمحاسبة هذا الكيان الغاصب الذي يتمادى كل يوم في جرائمه المستمرة بحق شعبنا العربي الفلسطيني وذلك لتوفر الأدلة والمستندات الموثقة والمحفوظة لدى الأمم المتحدة.. لأن مثل هذه الجرائم لا تخضع للتقادم الزمني.