دراساتصحيفة البعث

فترات الراحة خلال سباق التسلح

باسل الشيخ محمد

يعتبر مراقبون أن توقيع الولايات المتحدة والولايات المتحدة لاتفاقية INF (الصواريخ النووية متوسطة المدى) هو ما فتح الطريق لعلاقات جديدة بين كتلتي العالم الشرقية والغربية آنذاك، على أن تلك المعاهدة التي وصفت بالتاريخية جاءت عقب اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية (سالت1) الموقعة عام 1972، والتي نصت بأن تدمر الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ما بحوزتهما من صواريخ يتراوح مداها بين 500 إلى 5500 كيلومتر، ومن بينها صواريخ (بيرشينغ) التي كانت سبب ما عرف في الستينيات بأزمة الصواريخ الكوبية. ورغم أن ذاك النوع من الصواريخ يشكل فقط أربعة بالمائة من إجمالي الترسانة النووية للبلدين، إلا أنه اعتبر أفضل من لا شيء، في حين اعتبرت معاهدة IRNF فاتحة عهد جديد بين الدولتين.
عاد غورباتشوف عام 1991 ليوقع اتفاقية ستارت 1 (معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية)، والتي تطرق هذه المرة إلى الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، ومع انتهاء مدة المعاهدة عام 2009، استبدلت تلك المعاهدة بمعاهدة ستارت 2 الموقع عليها من قبل باراك أوباما وديميتري ميدفيديف لتدخل هي الأخرى حيّز التنفيذ عام 2011.

السباق لم يتوقف

من اللافت أن أسماء المعاهدات باللغة الإنكليزية قد تجعل المرء يقرأ المكتوب من العنوان، فمعاهدة سالت SALT صادف أن اسمها مطابق لكلمة “ملح” أما START فصادف أنها مطابقة لكلمة “بداية”.
لكن ما لم يكن صدفة هو بداية الولايات المتحدة نهاية عام 1984 بتسليح قاعدتي “مينيت مين” بصواريخ “تيتان2” القادرة على رفع 2132 رأساً نووياً، لكل رأس منها طاقة تتراوح بين 300 كيلو طن إلى 10 ميغا طن، هذا ناهيك عن إنتاج الصاروخ البالستي “أم اكس” القادر على حمل عشرة رؤوس نووية تصيب أهدافها بدقة عالية.
انتهت الحرب الباردة مطلع التسعينيات وظن كثيرون أن سيناريو نزاع نووي بوسعه تهديد الكوكب قد أصبح من تراث الماضي، لكن تراث التنازع في بقعة أخرى من العالم لم ينتهِ، إذ إن الترسانة النووية الأمريكية بقيت هي الأوسع على مستوى العالم، فعلى الرغم من أن الاتفاق الأمريكي-الروسي الموقع عام 2002 قد حدد سقف الرؤوس النووية بـ 2200 رأس نووي تنشر لغاية عام 2012، إلا أن الولايات المتحدة أعلنت أنها ستتحفظ بـ 4600 رأس نووي معد حتى العام 2012، وذلك للبقاء كقوة نووية مسيطرة عالمياً، وجاء في تقديرات العام 2015 أن الولايات المتحدة تمتلك قوة نارية تعادل خمس مرات ما لدى باقي القوى النووية مجتمعة.
إذن لم يكن أفول نجم الاتحاد السوفييتي ليبعد خطر الأسلحة النووية عن العالم، وفي الواقع لم يبتعد الخطر عن العالم يوماً، فخلال الحقبة السوفييتية صرح ريتشارد هيلمس مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية 1965- 1973 بتصريح مفاده “الجيد في الحرب الباردة هو أن أعداءنا معروفون، لكن إدراك العدو في حقيقته أمر غاية في الصعوبة” وبعد الحقبة السوفييتية جاء تصريح مدير الوكالة نفسها جيمس وولسي “لقد ذبحنا الديناصور الكبير حقاً، ولكن الحقيقة أن العالم يعج بتشكيلة محيرة من الثعابين السامة”.
سواء كان الاتحاد السوفييتي موجوداً أم لا، وسواء كان العالم يشهد ولادة أقطاب عالمية متعددة أم يشهد ولادة قوى إقليمية، فإن اعتبار صانع القرار الأمريكي لنهوض أي طرف سيعرض الولايات المتحدة لخطر المنافسة وخسارة المصالح العالمية.
من المعروف أن التوجه الواقعي هو السائد في مواقف الإدارات الأمريكية الخارجية، حيث يؤكد ذلك التوجه على أهمية القوة العسكرية في حل المنازعات بين الدول قبل أن تتحول تلك المنازعات إلى تهديد للمصالح الأمريكية، يؤكد هذا تقرير الأمن القومي الأمريكي 1991، والذي ذكر أن “أحد أبرز مهام الولايات المتحدة هي المحافظة على التوازن العسكري، وحل النزاعات قبل أن تتطور إلى نزاعات مسلحة” والسبيل إلى ذلك –مثلاً- واضح في تأكيد كولن باول وزير الدفاع الأمريكي الأسبق على عدم الانسحاب من العالم وعدم الموافقة على خفض ميزانية التسليح.
لكن سبيلاً آخر داخلياً هو ما يبقي الذراع العسكرية قوية، إذ يؤكد بول كينيدي في كتابه “صعود وسقوط القوى العظمى” على حقيقة تاريخية أدركها خبراء البنتاغون، وهي أن القوة تستمد من الثروة، حيث يعي المخطط الأمريكي أن هناك ثلاثة مصادر لممارسة القوة وهي: القيادة والثروة والتنظيم، إذن فمن غير المستغرب أن تستحوذ أمريكاً حالياً على ما يزيد عن 40% من ثراء العالم. وهذه النقطة بالذات تقودنا إلى تفسير سلوك دونالد ترامب….

المال والسلاح كوجهين لعملة واحدة

طالب وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، الولايات المتحدة الأميركية بالنظر بعناية إلى عواقب خروجها من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى، مضيفاً: إنه “على مدى 30 عاماً كانت المعاهدة ركيزة أساسية لأمن أوروبا”.
لكن أوروبا التي يتحدث وزير الخارجية الألماني عن أمنها هي نفسها التي تعتبر إدارة ترامب أن تشكيل جيش موحد لها “إهانة للولايات المتحدة” وهي نفسها القارة التي لوح ذات مرة بالانسحاب من اتفاقية الناتو العسكرية معها، وفي حين إن ترامب لم يفرض – إلى الآن- عقوبات اقتصادية على دول أوروبية إلا أنه خاض حرباً تجارية محدودة معها، بدأت بفرض تعرفه جمركية على الواردات الأوروبية من الصلب والألمونيوم، انتهت بشراء فول الصويا والغاز من أمريكا بمليارات الدولارات، أما مستوردات السيارات الأوروبية إلى أمريكا فما زالت تحت التعرفة الجمركية.
وسواء كانت هذه الخطوة محصورة في الدائرة الاقتصادية، أم كانت نوعاً من الضغط بغية تحقيق مصالح استراتيجية –ولاحقاً عسكرية- للولايات المتحدة، فلا شك أن عودة سباق التسلح سيتطلب مزيداً من المقدرات الاقتصادية التي لا تخرج عن إطار القيادة والثروة والتنظيم، ما قد يهدد باستيلاء الولايات المتحدة على أكثر من 40% من الثروة العالمية، وبتضخم قدرتها النووية إلى الحد الذي يرهب البشرية.