ثقافةصحيفة البعث

“شوكولا”.. يغسل ما تراكم على مهجة الحب من غبار

 

دمشق- البعث

يبحر بنا الشاعر علاء زريفة في بحر الحياة، يلامس مكنونات ذواتنا، ويحرّض أحلامنا، عبر نصوص ديوانه الجديد “شوكولا” التي حمّلها هواجسه وتعبه وكل متناقضات حياته- حياتنا – حيث اعتمد الجملة الشعرية المكثفة في مناجاته لروحه، مجللاً عبارته بغموض يحث المتلقي على سبر معانيه في محاورة للقصيدة، يستوضح من خلالها مقاصد الشاعر الذي لم يكشف عنها، فلنستمع إليه يناجي حبيبة منتظرة تسقط مطرها على روحه لتجلي عنه عتمته، وتتوج انتظاره باللقاء الحلم ففي قصيدة “لوح شوكولا” يقول:

“ركن أحزانه عند بابها/ يستعيد كلماته من عصير المخيلة أثناء زفير آهاته/يرسم ابتسامة خرساء/يرن جرس انتظاره/خمس دقائق… عشرة/وهو يحملق في انكسار ظله عند عتبات دارها/جئت متأخراً…/إلى ليل مدينتي”.

اختار علاء الشعر أسلوباً للهروب من صوت الرصاص الذي يصم الآذان، عبر بوحه الذاتي الذي سكبه على ضفاف شغفه، فيركن للشعر الذي فتح نوافذ روحه على نور الحياة، وفي ليالي الشتاء الطويلة كان يتقاسم معه رغيف الحنين لدفء الروح المثقلة بضجر الأيام، لفحته ريح القصيدة، فجاءت كما التراب يفاجئه المطر الأول للخريف، فيحيله إلى كرات دافئة من غضار، فلا هو استحال طيناً، ولا بقي ذرات جافة متناثرة من غبار.. هو بين حالتين، بين صيف، ورغبة في الهطول.. بين بوح راعش، واستكانة، فاجأته لغة من لهب تتراقص حروفها في الاتجاهات، وهذا ما نلمسه في قصيدته “قمر دمشقي”:

كن كل شيء/ كن حارساً للريح/ وتعشق ليل أغنيتي الأخيرة/ توسد فراغي فراشة بيضاء/ ليذوب حبر النهار في كلينا/ صُغني خيطاً في نسيج عينيك/ كن حبيبي”.

ويحافظ زريفة في قصائده هذه على تميز صوته الشعري بنكهته الخاصة الذي يختلف فيها عن مجايليه من الأصوات الشعرية الشبابية ببقائه ضمن رؤيته الذاتية  التي يقدمها صوراً حياتية تنطبق في ملامحها وسماتها على ما يعتمل في دواخلنا من مشاعر وأحاسيس، وربما كان شاعرنا أقدر منا على إدراكها والبوح بها، بدءاً من علاقاتنا الإنسانية حيث الزمن يجعل كل واحد فينا مشغولاً بتعبه بعيداً عن الذين كانوا يتقاسمون معه يوماً حياته بكل دقائقها وتفاصيلها، ولم يبق منها إلا الذكريات.. يقول في نص “سماء أقل”:

“أيتها المدينة غطي شعرك بيديّ، ربما قررتُ أن أصنع من أصابعي أزهار غاردينيا، متى تعلو هذه الأرض، سيذكر أهلها المهرولون وراء متاع بهائمهم ما فقدوه من رائحة”.

وفي خطابه للمرأة نراه يرفع شراع عاطفته باتجاه شواطئها لتستقر به الروح في واحة أيامها، لتكون سماؤها فضاءه الذي يحلم العيش فيه، في تأكيده على جدلية العلاقة التكاملية بين المرأة والرجل، يخطان أبجدية الحياة بحروف من حب يزهر أملاً في صحراء الزمن.. ومن نص “لا يزالان عاشقين” نقتطف:

“كلنا في الحب سواء.. كلنا في النزيف الأزرق سواسية، ومن بدأ الجرح يفتح جرحاً في تلابيب قلبه…

ويبكي أو تبكي.. المرأة التي تضحك أبداً تبدأ بلملمة ألمها من جوف عينيها تقول سراً: (أنت لا زلت تعرفني، لا تنتظر قاتلك، بادر إلى موتك الفردي حتى تتسامح مع دمك أو سلطان قلبك).. ولا يزالان عاشقان حتى الساعة.. لا يزالان”..

ولأن ثيمة الديوان هي الحب والمرأة يوضح الشاعر ذلك قائلاً:

“العلاقة مع المرأة هي ثيمة ديوان شوكولا، ومحاولة اكتشاف أعماق وجودنا انبثاقاً من الأفكار والواقع المعاش، فالكتابة كحالة تسعفنا في ذلك لإدراك ذواتنا بكافة تجلياتها أياً كانت طبيعتها شعراً أم نثراً، ومهما تعددت أغراضها ومواضيعها طالما تحمل هاجساً إنسانياً لتغيير هذا المعاش وإسقاط الحلم كنزعة فلسفية عليه، ويهدم الأشياء ويعيد إنتاجها وصياغتها قصائد تكتب من الداخل كمن يستوحي فكرة ثقب الجدار كما في رائعة كولن ويلسن الشهيرة “اللامنتمي”، رغم تأثرها الكبير بالبيئة المحيطة بي، ويحاول خلق عوالم الذي يولد من كنهه تفردنا وخصوصية وجودنا أروع وأجمل، من خلال المواضيع الشائكة التي تخلق جدلاً، وعناوين إشكالية، تريد إحراق شيء ما في كل نص، وتدافع بضراوة عن إنسانيةٍ بدأت تفقد جزءاً كبيراً من رصيدها المعنوي والمادي، بسبب نمط التسليع والعولمة وعصر السرعة الحالي، وأحاول اختراق المفاهيم والأطر الفكرية الخشبية واللغة الموسومة بالتعصب والانتهاك السافر لأرواحنا الحرة التي فطرنا عليها، واستكمالا لما في تجربته الأولى أي الشاعر “المسيح الصغير” الصادر عن دار الدراويش للطباعة والنشر في بلغاريا من تفكيك لتاريخ الأفكار والبنية الفكرية كذلك الحاضر وليد الماضي، التي كرست حرباً ضروساً ندفع ثمنها منذ ثمانية أعوام.

كتاب شوكولا يحاول أن يكون شهيد عذاب، متأثرا بالحرب ويعاين عن قرب طبيعتها وتأثيرها العميق في كل تفاصيل الحياة والمأساة، ويحاول أن يطرح فكرة الخلاص العقلانية بعيداً عن الانتماءات المتشظية والصراعات، وهو يناقش الهوية وتشعباتها ككل، ولا ينتمي إلى أيديولوجية أو تعريفات تمزيقية يدعو أن يكون الإنسان حراً في عقله، ويلعب دوراً محرضاً في سبيل ذلك.

يضم ديوان “شوكولا” للشاعر علاء زريفة والصادر عن دار دلمون الجديدة للطباعة والنشر 33 قصيدة ويقع في 120 صفحة من القطع المتوسط.