ثقافةصحيفة البعث

لم نكن أبرياء يوما

نهرب منا ومنا كثيرا، نحاول أن نفك الرباط بيننا وبين ذاكرتنا، فتعيدك سلاسل حقائبك التي مددتها طوعا إليها بصهيل الهيبة من تلك العودة إلى خزان الذاكرة، محملا روحك بوقع رنين وانين خطاها فيك على كل خلية في تفاصيل وقتك وفوق عظام ضلوع صمتك، متناسيا من أنت وكأنك ما كنت يوما ذاك الحامل لها وما كنت أنت، ليحاول ذاك الرباط بها أن يقصم ظهر حلمك كلما شددت بها إليك لتنفلت من عقاب اجترارها لك عمرا بلا جدوى، ولا يبق هناك سواك بها تتخبط جيئة إلى أمل وعودة إلى ذكرى قديمة مجددة، ترنحا في رجاء الخلاص من صليب ثقلها وعويل صوت ارتطامها بك وبأقدام تنقلاتك لقلبك، لتبحث عما ضل هناك حرا بلا ارتباط بحلقات تفاصيل أشخاصها وأسمائها وأحزانها ومفاجآتها، وكأن كل الذكريات تتخبط بنا إلى دوامة الماضي متأرجحين في خصمها لا عبارة ولا مجدافا ينقذنا من احتمالية الغرق في تفاصيلها، وكأن قدرا حتميا ذاك الأسر والارتحال عبر مضائقها وأنهر ندمنا الطويل في مضينا قدما عبر  خط الرحلة ومساراتنا بها وإليها فرارا منا ومنا ليس أكثر، وكلما قلنا ها قد نجونا نعود للهذيان بدوار مياه مجريات أحداثها فشلا، فشلا، وخيبة، خيبة، وهجران يصيب القلب وجدرانه بنكسة أبدية، حيث غدت نعمة سكينته وتوق سكونه سلاما محالا محال، وقد افلت قلبك يده من غمد الفرح ووطأ ديار الندم واستوطن قبائل الحزن العتيق الصارخ بعدم قدرة نبضك ونبضه على العوم إلى حب ووطن ومسكن من هيام جديد، وكأننا ماعدنا ولا كنا يوما أنفسنا ولا كنا  قلوبنا حتى، وبعدها لن يكون هناك حزن اشد مما حدث، ولن يكون هناك وقع له اثر فينا أكثر من ارتطامنا هذا بماضي تلك الذاكرة ومخزونها، ناسين مفاتيح أبواب العبور لضفة ثانية أو عمرا آخر، نجر ذيول آثامنا خلفنا نرتبك من موجة عطر مثيرـ  ترتجف أيدينا من نسمة حراك لعبير قد يحث بنا الرغبة للنهوض والجأش للتغير..

ننسى، نتجاهل، نتقوقع أكثر في مغلفات الضجر في أماكن مخنوقة لا تريد منا أن نكبر.. ندير عجلة الزمن والمسير بلا أدنى تعبير عن حلمنا، عن نبضنا، عن أمنيات الحلم والمسير لغد يتوق بشغفنا ونهيم به خلف زنازين الفكرة وقامة الخوف القزم الصغير الآسر بنا لدمعنا..

نأوي إليه هربا من كل صوت قلب وحب لنذوب بتلاشينا جرحا، ونتوه مجددا في ركبنا بين هشيم وهشيم، فالأرض سابقا التي كانت تأخذ شكلا مسطحا بأجنحة تطير صارت شكل قلب حبيس الوقت مظلم معتم دامع فقير، وكل سعي نحو إنارته يشعل بنا حنينا لحب وتذكر لمفرق أو جنبات وشوشة سكر كنا نهيم بها يوما صارت حقولها غبارا يطفئ شمسا، وعاصفة تغرق مركبا، وجنونا يقفل نافذة كانت على الضوء والحب بنا، صارت تطل وتفتح الآن على خربشات همهمة من ثقل، وتنسى أذرعها كيف بنا هي كانت تطير..

نصير في موجة صمتنا وصمتها هامات كأشجار يابسات همشنَ على أطراف الحقل بلا ولادات ولا زهور ولا ربيع، وتغدو بيوتاتنا غامضات في طرف عناوين الأسماء والأوقات والكراسات التي خطت خارطة غيث أسرارها وأسرارنا التي أقفلت ذاتها علينا معلنة حدادها الوقور الطويل، وتنحني كل المفارق بلا مواعيد، بلا مجانين بلا شعراء من ثقل أوزان صهيل الشهقات والأنين، وتختبئ الكلمات تحت مظلة العتمة والثرثرة ناسية عواميدها وموازين قوتها ونياشين سحرها، ويتوقف المطر غصة في حلق الغمام، يتوقف مجهضا سماءها وأسماء عاشقيه، يتمخض ولا يلد سوى همهمات من صخب بلا رعود ولا وعود من أصدقاء الحب وشوق سكرهم بعمر العشق الكبير.

تضيق بنا الألفاظ والمقاسات وتصغر المواطن والألوان والذكريات، ويتوه الصبر عن صبرنا ليشيح الضوء في آخر نفق الذكرى عن ضوئه ويتوه العاشق عن قلبه، والوطن عن وطنه وقلبه، لنعلم فقط أن ماضينا صنع أقدار وجدنا يمضي بنا نضيع  به بتهمة حب هرب منا طيشا، وعمرا فر منا قصدا لأننا لم نكن أمناء القلب والقلم لحظة، ولم نكن أبرياء يوما، لم نكن أنقياء بما يكفي ليقدر لنا العبور إلى الآن ومجرات تقوانا سلاما بأجنحة العبير.. لم نكن  أبرياء يوما، بل غدونا شركاء حتى في صناعة ماضي الحزن الثقيل، لوثة وندبة ما اجترعناه منا فقط، ولم نجد يوما بناء طوب الحب لغد مشرق منير لنا، يبني أوطانا، يصنع إنسانا، للعشق مكرس وليس بالوهم مدنس، يفتدي روحه لحظة هيام وارتقاء لحظة لقاء وبقاء لوطن يحتضن يلم ولا يشرد، يبني يعمر ولا يهدم أماني النقاء وزمن الأنبياء ومعجزة الأتقياء الأنقياء  يصنع قادة، ينجز عشقا وأنبياء سورته العشق ودينه الحب والنقاء.. نعم.. نعم لم نكن يوما أبرياء، لم نكن يوما أبرياء.

رشا الصالح