دراساتصحيفة البعث

البؤرة اليهودية في الجزيرة العربية

عبد الرحمن غنيم

كاتب وباحث من فلسطين

خلال العقود القليلة الماضية اجتهد العديد من الباحثين العرب في محاولة التعرف على الموطن الذي نزل فيه بنو إسرائيل عقب خروجهم من مصر وأقاموا فيه طويلاً، وهل كان هذا الموطن هو في فلسطين أم في جزيرة العرب. وقد تعدّدت الاجتهادات في هذا السياق، فهناك من استنتج أنهم تواجدوا في عسير جنوب غرب الجزيرة العربية، وهناك من رأى أنهم تواجدوا في اليمن. وقد قدّم كل باحث شواهده لإثبات صحّة وجهة النظر التي وصل إليها.

خلافاً للتصوّر الشائع فإن بني إسرائيل زمن الخروج من مصر بقيادة موسى تسنّى لهم العديد من الخيارات للإقامة في موطن جديد. وهذه الحقيقة –كما سنرى– تخالف الادعاء التوراتي بوجود وعد محدّد لبني إسرائيل بأرض محدّدة. وهذه المسألة لا ينتبه إليها الباحثون بشكل عام.

في دراستنا لهذه المرحلة التي هي جزءٌ من قصة الخروج تبيّن التالي: إن الجبل أو الطور هو جبل حرب {حوريب التوراة} أحد جبال الحجاز ويقع في مدين الجنوبية، وهو الجبل الوحيد الذي تنطبق عليه صفة [الغربي] الواردة في القرآن. ولو نحن دققنا جيداً سنجد أن كل المواقع التي اقترحها الباحثون لجبل حوريب لا تنطبق عليها صفة [الغربي] بالنسبة للحجاز أو السراة أو الجزيرة العربية.

إن القوم توجهوا بعد تواجدهم في جبل حرب جنوباً حيث يوجد جبل لاوي ووادي سلوى، وأن قصّتهم مع البقرة كانت في وادي داما {أي وادي البقرة} إلى الجنوب الغربي ضمن مدين الجنوبية.

بعد هذه الوقائع سيصل القوم إلى قادش {قادس} وفق رواية التوراة. وكل المعطيات ترجح أنها مكة وليست “عين قديس” في جنوب فلسطين كما يحاول المؤرخون التوراتيون القول. وهناك سيحدث التطور الذي ترتب عليه قرار التيه. وواضح هنا أن “الأرض المقدسة” المقصودة هي في عسير، والدليل على ذلك أنه بعد قرار التيه كان عليهم أن يتجهوا شمالاً سالكين طريق البحر الأحمر. وإذا كانوا قد وصلوا في تيههم إلى صحراء النقب وسيناء فصارت تُسمّى بأرض التيه أو “تيه بني إسرائيل” فهذا تطور منطقي للوقائع ولا يشكل مؤشراً على العكس.

إن ما يجب الانتباه إليه هو أن قول موسى عن تلك الأرض لا يعني أنها “أرض الميعاد” كما يزعمون، بل هو الخيار الذي انتهوا إليه بعد رفضهم للخيارات الأخرى، ثم إنه من المعروف أن القول “كتب لفلان كذا” يعني قدّر له ولا يعني أنه أعطي وعداً. فبعد أن رفضوا الفرص التي أتيحت لهم واحدة بعد الأخرى صارت تلك [اهبطوا مصراً] هي فرصتهم الأخيرة.

ودون أن نغرق في التفاصيل المتعلقة بالتيه وما بعد التيه، فإنّ بني إسرائيل تواجدوا في موطن يقع على شاطئ البحر الأحمر، سواء كان هذا الموطن في عسير أو في تخوم جدة أو ينبع البحر إلى الغرب من المدينة، وأنهم لم يكونوا وحدهم منفردين في ذلك الموطن، وأن الوقائع المتعلقة بتاريخ بني إسرائيل وعلى مدى زمني طويل إنما دارت في ذلك الموطن. ولكن هناك موطناً آخر في جزيرة العرب تواجد فيه اليهود أو أسلاف اليهود غير القرية التي كانت حاضرة البحر. والسؤال الآن: إذا كانت تلك هي ديارهم فمتى حلّوا فيها وانفردوا بها تاريخياً؟.

هنا تتعدّد الروايات والاجتهادات، فهناك من يقول إنهم تواجدوا في تلك الديار قبل البعثة المحمدية بحوالي 1000 سنة حين جاء بهم الملك البابلي نبونيدس واتخذ من تيماء مقراً له. وهناك من يقول إنه جيء بهم قبل ذلك من قبل الآشوريين، ولكن هناك أيضاً رواية تعيد وجودهم في تلك الديار إلى زمن موسى عليه السلام. ومهما كانت الحقيقة التاريخية فإن الشيء الوحيد الأكيد هو أن تلك الرقعة التي وصفت في القرآن بأنها أرضهم وديارهم والممتدة من يثرب إلى تيماء هي الموطن الوحيد الذي نسبوا إليه ونسب إليهم. وما من مكان عداه، بما في ذلك القرية التي كانت حاضرة البحر، اكتسب تلك الصفة. وهنا علينا أن ننتبه إلى مسألتين: الأولى هي أن ما قيل عن نشوء الملكية عند بني إسرائيل زمن داود وسليمان كان خارج الديار التي يقيمون فيها وليس داخلها. والثانية هي أن الإفسادين المذكورين في سورة الإسراء هما خارج ديارهم وليس داخلها.

والواقع أن قصة نشوء الملكية عند بني إسرائيل تتضمن ما يثبت أمرين: أولهما أنهم لم يكونوا قد خاضوا تجارب قتالية حقيقية قبل ذلك، وثانيهما أنهم كانوا غرباء خارج ديارهم الفعلية حين لجأوا إلى موطن داود. والحقيقة إن داود وسليمان هما من آل إبراهيم وليسا من بني إسرائيل، وملكهما ينتمي إلى مُلك آل إبراهيم، وعلاقة بني إسرائيل بهذا الملك هي في أحد جوانبها علاقة الحاسدين وليس علاقة المؤسسين. فلو أن مُلك طالوت دام لهم لما كان لداود أن يمسك بالمُلك، ولكن داود هو الذي حسم المعركة مع جالوت. وهذا يعني أن بني إسرائيل الذين أخرجوا من ديارهم وأبنائهم ولجأوا إلى داود انقسموا بين مؤمن وكافر، فلُعن الذين كفروا منهم على لسان داود مثلما لُعن الذين كفروا منهم بعد ذلك على لسان عيسى.

والآن، دعونا نسلّم بوجود مشكلة تحتاج إلى التوضيح، وهي مشكلة العلاقة بين بني إسرائيل واليهود. وعلينا أن ننتبه هنا جيداً إلى أن قصة [القرية التي كانت حاضرة البحر] تتعلق ببني إسرائيل، بينما قصة “أهل القرى” والأماكن التي وصفت بأنها [أرضهم وديارهم وأموالهم] تتعلق باليهود. ولكن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك همزة وصل بين بني إسرائيل وبين اليهود. وتعتمد همزة الوصل هذه بالدرجة الأولى على التراث، أكثر من اعتمادها على الانتماء الإثني أو القبلي، بمعنى أن اليهود ورثوا تجربة بني إسرائيل ووجد من بينهم من تعود أصوله العرقية إلى بني إسرائيل ولكنهم لم يكونوا جميعاً من بني إسرائيل.

يقدّم لنا د. أسامة الأشقر في بحث له بعنوان “الجماعات اليهودية في شمال غرب الجزيرة العربية” تصنيفاً لبعض يهود الجزيرة زمن البعثة المحمدية، فيقول إنهم كانوا ينتشرون في المواقع من الطائف جنوباً إلى تيماء شمالاً، وأنه وردت إشارات عن يهود شرق ووسط الجزيرة العربية تدلّ على وجود يهودي صغير جداً أشبه بوجود عائلي لأغراض تجارية أو اجتماعية. وفي تصنيفه لليهود آنذاك يذكر أنه إضافة إلى بني قينقاع والنضير وبني قريظة وجد في يثرب: بنو هدل– بنو أنيف من قبيلة بليّ– بنو مريد حي آخر من بليّ– بنو القصيص– بنو حارثة– بنو النجار– بنو زريق– بنو عمرو بن عوف– بنو ناغضة– بنو زهرة– بنو الحدماء– بنو معاوية بن الحارث بن بهثة– بنو ثعلبة وبنو حجر– بنو زعوراء– بنو ماسكة– بنو محمم– بنو خنافة– بنو زيد اللات– بنو عكوة– بنو مراية– بنو جُشم– بنو الشطيبة– يهود بني الأوس– يهود بني عبد الأشهل– يهود بني سليم وبنو سليم كانوا يسكنون قرب خيبر في عالية نجد– يهود الجوّانية قرب أحد– يهود يثرب وقد بادوا ولم يبقَ منهم أحد– يهود راتج– بنو القمعة. وهو يذكر أنه كان بمكة بعض اليهود يمارسون التجارة إلا أنهم قلّة، كما كان بالطائف قوم من اليهود من اليمن ويثرب قبل فتح المسلمين لها أقاموا بها التجارة، وأما خيبر فلا يعرف إلا أنها منازل بني عنزة من اليهود، وهو يردّ هذه المعلومة الأخيرة إلى كتاب “صبح الأعشى في صناعة الإنشا” للقلقشندي. ويقول إن المصادر تصمت عن أسماء القبائل والبطون اليهودية في وادي القرى وفدك وتيماء، وأما مقنا فكان فيها يهود بني جنبة، وبني غاديا وبني عريض، كما أن جماعات يهودية سكنت جربا وإذرح.

وفي كتاب “المعارف” لابن قتيبة أن اليهودية كانت في حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة. والواقع أن بنيامين التطيلي سيكشف لنا بعد زمن، أي في القرن 12م عن وجود كبير لليهود في تلك المناطق، ومنهم اليهود الركابيون وهم مديانيون أصلاً وبعض الأسباط.

يختصر د. أحمد أمين في “فجر الإسلام” المشهد بقوله: انتشرت اليهودية في جزيرة العرب قبل الإسلام بقرون، وتكوّنت فيها مستعمرات يهودية، وأشهرها يثرب، وهي التي سمّيت فيما بعد بالمدينة، ولكن من هم هؤلاء اليهود في جزيرة العرب؟. هل هم من عنصر يهودي أم من عرب تهوّدوا؟. وإذا كان الأول فمن أين أتوا: هل أتوا من فلسطين أم من غيرها؟. اضطربت الأخبار في ذلك، ويظهر أن الصنفين كانا موجودين في الجزيرة، يهود نزحوا وعرب تهوّدوا. فياقوت في معجمه يذكر أن يهود يثرب عرب تهوّدوا. ويقول صاحب الأغاني “إنه لما ظهر الروم على بني إسرائيل جميعاً في الشام فوطأوهم وقتلوهم ونكحوا نساءهم خرج بنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل هاربين منهم إلى من بالحجاز لما غلبتهم الروم على الشام”. وعلى كل فقد كان في القرون الأولى للميلاد مستعمرات يهودية: في تيماء، وفي فدك، وفي خيبر، وفي وادي القرى، وفي يثرب وهي أهمها. وقد اشتهر اليهود في جزيرة العرب حيث حلوا بمهارتهم في الزراعة كما اشتهروا في يثرب أيضاً بصناعاتهم المعدنية كالحدادة والصياغة وصنع الأسلحة.

وواقع وجود النوعين من اليهود يتأكد من الناحية اللغوية، بل ومن الناحية الدينية أيضاً. يقول د. جواد علي في كتابه “تاريخ العرب في الإسلام” إنه وجد بين الموالي والأجانب المقيمين في المدينة ومكة من كان يحسن الكتابة والقراءة بلغة قومه ويقرأ كتبهم. فكانت في المدينة مدارس “مدراش” تفقه فيها اليهود أحكام دينهم، وتفسّر لهم كتبهم، وتقصّ عليهم ما ورد في كتب أخبارهم من قصص وتفاسير في أحكام ديانة يهود. وقد بقيت قائمة حتى إجلائهم من الحجاز إجلاءً جماعياً في خلافة عمر. وقد كان هؤلاء يذيعون قصصهم بين أهل المدينة، ولعلهم كانوا يقومون بالتبشير في اليهودية أيضاً طمعاً لتكثير عددهم، وتقوية مركزهم، بعد أن تمكن عدد منهم من تهويد أناس من العرب في اليمن، ومن تكوين جالية يهودية قوية فيها، ومن تأسيس حكومة متهوّدة نكلت بنصارى نجران. وكان اليهود، كما تقول كتب الحديث والأخبار، يقولون بقرب ظهور رجل منهم يعيد إليهم المُلك، وينتقم من أعدائهم، يخوّفون به العرب، ويرجون أن يكون ذلك اليوم قريباً. وكان اليهود أصحاب مُلكٍ ومال ونفوذ في منطقة المدينة إلى جنوب فلسطين.

ويقول صلاح حمودة إنه نتيجة لحملة التبشير المنظمة والمحمومة التي نشطت في المجتمعات اليهودية في الفترة اليونانية الرومانية بشكل فريد لم يشهده تاريخ اليهودية من قبل ولا من بعد، وكانت نتيجتها تحوّل بعض سكان حوض البحر المتوسط وغيرها إلى اليهودية حتى وصلت بعض التقديرات باليهود في الدولة الرومانية إلى 10% من السكان، وهي أعلى نسبة وصل إليها تعداد اليهود في دول حوض البحر المتوسط حيث بدأت النسبة بالتناقص المستمر بظهور المسيحية فالإسلام. وعند ظهور الإسلام كان كثير من قبائل الجزيرة العربية وحواضرها تدين باليهودية، وكانت مدن تيماء ويثرب ونجران مراكز يهودية معروفة. كذلك كان الشاعر العربي الجاهلي السموأل بن غريض بن عادياء الأزدي، من بطون قحطان، الذي يضرب به المثل في الوفاء عند العرب يهودي الديانة ويسكن في خيبر القريبة من يثرب. ويضيف حمودة إن ما اتفق عليه أكثر المؤرخين أن قبائل اليهود في الحجاز هم عبرانيون نازحون من جراء الاضطهاد الروماني في الفترة ما بين عامي 70 و135م، ولم يكونوا عرباً، أي أنهم هم الناجون من دمار “أورشليم” على يد تيطس أو الذين تم إجلاؤهم {بنو النضير وقريظة} على يد الامبراطور هادريان. ولذا يطلق عليهم لقب “الكاهنين” نسبة إلى هارون النبي. وسبقوهم بنو قينقاع. ويقول إنه برغم أصالة وعبرية تلك القبائل مثل بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر وفدك ووادي القرى، إلا أن هناك من قبائل العرب من اعتنق اليهودية أيضاً، وربما تقرباً لليهود.

دعونا نعترف بأنّ الصورة التاريخية الحقيقية هي أعقد من ذلك. وهنا علينا أن نميّز بين اليهود وأسلاف اليهود أو بني إسرائيل ومن معهم. فكلمة يهود الدالة على الديانة لم تظهر إلا عام 516 ق.م في بابل، ولكن ما جاء في القرآن الكريم عن [القرية التي كانت حاضرة البحر] يعني أنه كان هناك وجود لبني إسرائيل في جزيرة العرب قبل ظهور الديانة اليهودية بزمن طويل. كما أن المعطيات المتوفرة لا تفسّر لنا بشكل مقنع سرّ انفراد اليهود بالسيطرة على منطقة في جزيرة العرب اعتبرها القرآن الكريم [أرضهم وديارهم] وكون هذه المنطقة بالذات هي التي تواجد فيها الملك البابلي نبونيدس، فإذا كان اليهود قد حلّوا فيها مع نبونيدس فمعنى ذلك أنه كان قد مرّ على إقامتهم زمن البعثة المحمدية أكثر من 1000 سنة. ومن العبث الافتراض بأن اليهود الهاربين من بطش الرومان وجدوا أرضاً خالية في جزيرة العرب فاستوطنوا فيها، دون أن تثير هذه الفرضية السؤال عن مصير من كانوا يقيمون في تلك المدن والقرى.

ولعلّ الصورة حول التناقض الثقافي والحضاري بين اليهود الذين طرأوا على جزيرة العرب وبين العرب تلخصها لنا هذه الواقعة التي يوردها وهب بن منبه في كتابه “التيجان في ملوك حمير”، حيث يقول إن الملك حارثة بن ثعلبة ترك بني عمّه بالشام وسار يريد يثرب بمن معه من ولده وولد ولده، وسار معهم ثعلبة بن جفنة ومعهم جذع بن سنان، فوردوا يثرب ونزلوا بصؤار، وأهل يثرب عندئذ اليهود وملكهم شريف بن كعب اليهودي. فقال لحارثة بن ثعلبة: لا ندعك تقيم معنا إلا على شرط وعهد تكتبونه بيننا وبينكم. قال له حارثة: ما هو؟. قال: تكتبون عهداً بين بني إسرائيل وغسان: أنّ اليهود لغسان حاضرة وأنّ غسان لليهود بادية. فقال جذع: عاهدوهم حتى تعفى أموالكم وتستريح دوابكم وأنفسكم فإنه يحدث بعد الأمر أمر- وهم عجم، والعجم لا تقيم على عهد إلا على الذل والخوف، ولا يصبرون على خطة، وإنكم تجدون فيهم ما تريدون.

يعنينا من هذه القصة أمران: أنّ يهود يثرب اعتبروا أنفسهم من بني إسرائيل، وأن جذع بن سنان وصفهم بالعجم. وهذا الوصف يعني أنهم لم يكونوا من سكان الجزيرة العربية الأصليين، وأن لغتهم كانت مختلفة عن العربية بدرجة أو بأخرى.

ويقول د. عبد العزيز الدوري إنه في القرن السادس للميلاد حاولت المسيحية واليهودية أن تتغلغلا في الجزيرة العربية، وكانتا متصلتين بالصراع السياسي، إذ بدت كل منهما حليفة لإحدى الدولتين الطامعتين {البيزنطية والساسانية}. ويبدو أن اتجاه اليمن إلى نوع من التوحيد {عبادة ذي سماوي} ثم اضطهاد ذي نواس للمسيحية، تعبير عن هذا المفهوم السياسي. ومما زاد الارتباك محاولة الساسانيين والبيزنطيين التحكم في طرق التجارة، خاصة طريق الهند، الذي كان ينتهي بالخليج العربي عبر العراق إلى الشام من طرف، أو يأتي إلى اليمن ويمرّ بالبحر الأحمر أو بغرب الجزيرة إلى البحر الأبيض من طرف آخر.

وحين ننظر إلى المسألة من هذا المعيار، فإننا لا بدّ وأن نلاحظ قلة عدد من أسلموا من يهود الجزيرة العربية مقارنة بالنصارى. ويقول د. الأشقر إنه أمرٌ قد نجد تفسيره في قوة الرباط الاقتصادي والتجاري عند اليهود. لكننا بالمقابل، رأينا عدم نصرة اليهود بعضهم لبعض. وهنا نلاحظ أن انعدام التماسك بين اليهود ظهر في ذلك الجزء من المكوّن اليهودي الغريب عن جزيرة العرب. فالعرب الذين تهوّدوا كانوا أكثر قابلية لاعتناق الإسلام من المكوّن اليهودي الغريب، أو لنقل المكون اليهودي الأصلي. ويتضح الفارق بين المكونين من خلال رصد اللغة.

يقول الأشقر إن اليهود كانوا يميّزون بعضهم بالرطانة السريانية، ويعرفون الدخيل عليهم بها. وهذا في القبائل اليهودية غير العربية بخلاف القبائل والبطون العربية التي تهوّدت وبقيت على لغتها، وأن تأثر اليهود بالعربية تخاطباً وكتابة لا يعود فقط إلى مجاورتهم للعرب لقرون متصلة وعيشهم بينهم، بل يعود أيضاً إلى العددية الكبيرة من العرب المتهودة. ومن الطبيعي أن تكون لغتهم قد عملت على تعريب ألسنة اليهود الآخرين لاتصالهم الطويل بهم وكثرتهم. ولكن دعونا نقول بأن العبرانية كانت لغة الطقس الديني اليهودي وأن السريانية كانت لغة الحياة ولغة التعامل التجاري عند ذلك القسم من اليهود القادم إلى جزيرة العرب من خارجها، بينما كانت العربية هي لغة الحياة اليومية التي لا بد من التعامل بها ضمن المجتمع. أي أنه وجد يهود بلسان ويهود بلسانين ويهود بثلاثة ألسن. ومعنى هذه الظاهرة أنه كان هناك يهود محليون ويهود طارئون، ولم يكن اليهود المحليون هم الأصليون بالمعيار اليهودي وإنما كان الأصليون هم الطارئون، مع العلم بأن ما سيتضح معنا عن وجود اليهود الركابيين مثلاً في زمن لاحق يشير إلى أقدمية أسلاف اليهود في جزيرة العرب بحيث يعود وجودهم إلى زمن البداية الموسوية.

إن هذا الوضع يثير سؤالاً في اتجاهين: متى انقطعت صلة من اعتنقوا اليهودية لاحقاً بجزيرة العرب؟ ومتى تجدّدت هذه الصلة؟. ولا إجابة على هذا السؤال سوى أن اليهودية كانت ديانة طارئة، ولم تكن هذه الديانة الطارئة هي ديانة بني إسرائيل الأصليين في موطنهم الأصلي. وفي هذا السياق يقول الأشقر إن الجيل الثاني من اليهود الطارئين اتخذوا أسماءً عربية وعملوا على إجادة اللغة العربية. إن التطور بهذا المنحى أدى –في نظره- مع الزمن إلى نتيجة معيّنة، وهي أنهم انصهروا في عادات المجتمع العربي وتقاليده ونظمه ولغته. ولكن التمايز في ردّ فعلهم تجاه الدعوة الإسلامية واستمرار الوجود اليهودي لزمن طويل بعد ذلك في جزيرة العرب قد يدلّ إلى خلاف ذلك، أي إلى تمسك بملامح التمايز حتى وإن كانوا مضطرين إلى التأقلم لأغراض التعامل مع المحيط، وهي حالة عاشها اليهود حيثما تواجدوا في مختلف بلدان العالم، ولا زالوا يعيشونها حتى الآن.

تقودنا محصلة البحث إذن إلى الاستنتاج القائل بأن الديانة اليهودية جاءت إلى جزيرة العرب من خارجها في زمن متأخر، بينما نحن نعرف بالمقابل أن قصة بني إسرائيل بعد الخروج من مصر دارت في جزيرة العرب، وأن بني إسرائيل وجدوا على الأقل وعاشوا لزمن طويل في [القرية التي كانت حاضرة البحر] داخل جزيرة العرب. وهذا الاستنتاج يجعلنا معنيين بمعرفة الموطن الذي نشأت فيه اليهودية كديانة حلّت محل الموسوية والأسس التي سمحت لها بالانتشار والتوسّع وتشكيل جماعات يهودية متفرقة عبر العالم القديم.

إن الحقيقة التي تفرض نفسها علينا في هذا السياق هي أن موقف اليهود من الدعوة الإسلامية تأثر بالأصول الإثنية على نحو واضح. ويقول صلاح حمودة إنه بإسلام الكثير من القبائل العربية تقلص الوجود اليهودي في الجزيرة العربية طواعية مثل قبائل الحارث بن كعب وكنانة وكندة وقضاعة وجذام وغيرهم، وشاركت تلك القبائل في حركة الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين وفي الدولة الأموية وشطر من الدولة العباسية، حتى أسقطها المعتصم مع سائر القبائل العربية من ديوان الجند مستبدلاً بهم الأتراك. كما شاركت تلك القبائل في الفتنة الكبرى كمعظم القبائل العربية. وسنرى بالمقابل أن الوجود اليهودي في جزيرة العرب قد تعزّز بعد ذلك، وخاصة في زمن الحروب الصليبية، وأن أعداد اليهود بلغت أرقاماً عالية للغاية، وأنهم شكلوا بذلك بؤرة يهودية مهمّة أسهمت بعد ذلك بشكل أو بآخر في الحركة الوهابية.