الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الأماديح العالية..!

حسن حميد

قال: عدتُ وحيداً، واختليت بنفسي كي أسألها: كيف حدث هذا؟! وأين هم الناس الذين عرفوا تشيخوف، وقد كانت يده البيضاء مملوءة دائماً، وندية مثل فجر حميم؟! وأين هم الكتّـاب والأدباء وأهل الفن والتعبير، أين هم المسرحيون الذين احتفوا بمسرحياته؟! وأين هم المعلمون والمربون الذين كانوا يأتون إلى منزله في نهايات الأسابيع، فيحتشدون أمام دارته كما لو أنهم طلاب علم؟! وأين هم الفقراء الذين كانوا يأتون إليه في مواعيد الطعام عند الظهيرة، وأين هم أهل الصحافة الذين تسابقوا بتدافع جلي كي يستحوذ أحدهم على قصة جديدة من قصصه، وأين هم الناشرون الذين اعترفوا بأن أدب تشيخوف كان درباً للرزق الحلال؟! ويزداد قهري، ويثقل عليّ حزني لأن نفسي تروغ عني فلا تمدني بإجابة تريح قلبي، أو تجعل الجسد يهمد ويتهاوى فينام!

تلك الأسطر قالها مكسيم غوركي بعد أن عاد من جنازة أنطون تشيخوف الذي كان حضوره الأدبي في روسيا حدثاً عاصفاً، وكان صدور كتاب له أكثر من ظاهرة داخل روسيا، وخارجها، وكان النقد الأدبي يدور حول قصصه ومسرحياته كما يدور النحل في البساتين، وكان جمهور المسرح يتدافع أمام أبواب المسرح الذي تعرض فيه مسرحية له كما تتدافع أشجار الغابة وسط ريح هوج.

يتألم غوركي لأن نفراً قليلاً مشوا في جنازة تشيخوف الذي عرف الجميع بمرضه، وأنه راح يتخير الأمكنة الدافئة كي ينقذ نفسه من براثن مرض السل الذي استوطن صدره، يصرخ من أعماق قلبه أين هم هؤلاء الذين أحبوا تشيخوف إلى حد الجنون، ولماذا لم يسارعوا إلى التعبير عن حزنهم وقد فقدوا من أحبوا؟! وهل خبر مثل خبر رحيل تشيخوف يطوى أو يحيّد؟! أين هو تولستوي الرجل العجوز، كبير أدباء روسيا، كيف لم يحضر ولم يمش في جنازة تشيخوف الذي أحبه إلى حدّ الهوس! تولستوي الذي قال عنه: تشيخوف حال خاصة، وموهبة خاصة، وروح أدبية خاصة!

ألم يدرك تولستوي مقدار المحبة والتقدير اللذين كنهما تشيخوف له، ألم يزره في بيته، فرأى رهطاً من الناس يحيطون بالبيت مثل طيور الكراكي، ألم ير صورته الكبيرة التي تتصدر الحائط الكبير التي تواجه الطاولة الخشبية التي يكتب فوقها؟! ألم يتذكر سؤاله لتشيخوف وهو يشير للصورة: لماذا تضع هذه الغيمة السوداء قبالتك؟! وإجابة تشيخوف التي تقطر نداوة ومحبة وتقديراً له: أضعها هنا كي تمطر في قلبي! أين هم مرضى تشيخوف الذين سهر عليهم طويلاً حتى تشافوا من أمراضهم، ألم يسمعوا بخبر رحيل طبيبهم؟! وأين هن النساء اللواتي كن يبكين جهراً في صالات المسرح حين عرض مسرحياته؟!

ويغصّ غوركي لأن الإجابات تعصاه، تنفر منه مثل طيور حذرة! وظلّت غصته كبيرة وموجعة لأنه لم ير أحداً من الأدباء ينتظر في محطة القطار التابوت الخشبي الصقيل الذي عاد بجثمان تشيخوف، كان وحيداً مع  نفر قليل من أهله، وكان وحيداً معهم وهو يمشي وراء التابوت إلى قبره! وقد حاول غوركي أن يخرج من حالته الحزينة حين كتب مقالات عدة اعتصرها الألم، والعتب، والأسى، ولكن بعض الحزن غامق ثقيل يترسب في قاع القلب ويبقى، وقد كان حزن غوركي لرحيل تشيخوف من هذا النوع.

أتذكر هذه الحادثة وأنا أرى الأماديح العالية وهي تحيط أهل الأدب والثقافة والفنون في حضورهم فحسب، لأنهم وما إن يرحلوا حتى يلفهم النسيان وتطويهم الأزمنة، وتصير الأماديح العالية لأصحاب مواهب لم تتجل بعد، ولأعمال لم تعرف بعد أسرار المطر، والدهشة، والحذق، والجمال، كما لم تعرف بعد ما تقوله عن الناس وأحلامهم، ولا كيف تقوله!

Hasanhamid55@yahoo.com