دراساتصحيفة البعث

التطبيع جريمة أخلاقية

 

علي اليوسف

تعيش المنطقة العربية مظاهر تطبيع معلنة أو شبه معلنة مع الكيان الصهيوني لأسباب ليس لها تبرير واقعي حتى الآن، ولكن الشيء الوحيد الملموس هو أن سباق التطبيع تسارعت خطاه بعد دخول المنطقة دائرة الصراعات الخارجية والداخلية، وإلحاح الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب على دمج الكيان الإسرائيلي في أحلاف إقليمية قبل التوصل إلى حل القضية الفلسطينية. ولهذا الغرض تم الدفع بمظاهر التطبيع بصيغ مختلفة بعد أن كانت حتى الأمس القريب من المحرمات على الساحة العربية، وقد استغلت الإدارة الأمريكية حالة الضعف والصراعات العربية، واستثمرت مشروع “شيطنة” إيران من أجل إحداث مقاربة مع الكيان الإسرائيلي.
وعلى الرغم من مرور سبعين عاماً تقريباً على احتلال الكيان الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ما زالت مشروعيته غير قانونية على المستويات الدولية، وظل الحال في أروقة المنظمات الدولية طوال تلك الفترة حتى دخلت المنطقة العربية في دوامة الإرهاب الخارجي المصدّر من الجهات الراعية للكيان الصهيوني والإرهاب على حد سواء لتستغل الولايات المتحدة حالة الفوضى وتفرض رؤى الكيان الصهيوني على الدول المحمية من قبل أمريكا وتمرير ما لم يمكن تمريره سابقاً.
والمفاجأة كانت في خرق دول الخليج وعلى رأسها النظام السعودي لجميع المحرمات العقائدية بحجة الحماية لها، وهو الأمر الذي لم يخفه دونالد ترامب بالقول “الدفع مقابل الحماية”. وتلقف الكيان الصهيوني الهرولة الخليجية من خلال استثمار حالات الصراعات التي تمر بها بعض الدول العربية لتقديم نفسه كعراب لتلك الحماية، وتعمد المجاهرة بتلك العلاقات، والظهور بصورة الحليف الحريص على دول المنطقة القادر على مواجهة ما يسمى “الخطر” الإيراني.
أما القضية الفلسطينية، بوصلة المنطقة، فقد تم تغييبها عن المشهد السياسي العربي وحتى الدولي، فظاهرياً تتم المناورة على تبني خيار حل الدولتين، لكن عملياً يسعى الكيان الإسرائيلي لعرقلة أي محاولات تسوية خارج إطار اعتراضاتها الأربعة: “لا لعودة اللاجئين، لا لتفكيك الاستيطان، لا للقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية، لا لدولة فلسطينية كاملة السيادة”، وتطبيق قانون الدولة اليهودية الذي أقرته مؤخراً، وهو الذي يعرض من تبقى من الفلسطينيين داخل أراضي 1948 للتشريد، وهذا ما يفسر عرقلة الكيان المحتل لخيارات السلام العربية، وترسيخ سياسة فرض الأمر الواقع.

مظاهر التطبيع
من المحتمل أن يكون هناك عدة سيناريوهات لمظاهر التطبيع مع الكيان الصهيوني تتمثل بالالتزام بالتطبيع بصيغته الأمريكية التي لم تُعرف تفاصيلها بعد، وهذا سيظهر تيار رافض لهذه الصيغة، أو سيظهر تيار ثالث سيظل رافضاً للتطبيع بكل صوره. ففي السيناريو الأول “التطبيع الجزئي” ستقدم بعض القيادات العربية، ومنها الخليجية على التطبيع، امتثالاً للضغوط الإسرائيلية والأمريكية، وقد يتم تغيير المبادرة العربية للسلام ومقاربتها مع المبادرة الأمريكية التي لا تحقق المطالب الفلسطينية، وهذا يعني بلا شك تسليم قيادة المنطقة للكيان الصهيوني. أما السيناريو الثاني فقد يفشل التطبيع كلياً عبر قوى شعبية عربية ومحور المقاومة، لكونها ترى في هذا الكيان العدو الأول وأن القضية الفلسطينية هي القضية الأولى، وهو خيار محور المقاومة الذي يرفض التطبيع بكل أشكاله، ولهذا السبب تم إشغال هذا المحور بحروب جانبية ومشاغلة سياسية وإشغال الشعوب العربية بقضايا داخلية بهدف إضعافها، في مقابل إلزام بعض القيادات العربية على التطبيع، لكن حتى لو فرض على تلك القيادات هذا النوع من التطبيع سيظل بعيداً عن الشرعية الشعبية، وستظل مظاهره معزولة عن الاعتراف الشعبي، لأن المزاج الشعبي، رغم كل الأحداث التي تشهدها المنطقة، سيبقى رافضاً للتطبيع، وحتى بعض القيادات العربية ستظل في حالة من عدم الثقة في الإقدام على خطوة كهذه.
أخيراً يبقى السيناريو الثالث “التطبيع الكلي” وهو الذي تم رفضه بشكل قاطع من قبل القيادات والشعوب العربية في المرحلة الماضية، لكن الآن يبدو أن القيادات العربية نفسها التي كانت ترفض هذا النوع من التطبيع هي التي تهرول نحوه، متذرعه بطول الصراع والانقسامات الفلسطينية.
لكن حتى الآن يبدو أن الإدارة الأمريكية ستفرض الصيغة الأمريكية للسلام إرضاءً للكيان الإسرائيلي، خاصة بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي القدس عاصمة للكيان المحتل، وعرقلة حكومات الكيان لكل المبادرات العربية. لكن هذا السيناريو سيتم إفشاله بسبب وجود فاعلين آخرين متمثلين بحركات المقاومة التي أصبحت أكثر قدرة وخبرة على إدارة الصراع.
الموقف الفلسطيني
هناك مظاهر واضحة في التطبيع لا تخفى على أحد، ومن هذه المظاهر الزيارات المتبادلة المعلنة بين قيادات الكيان الإسرائيلي ودول الخليج، وسماح دول خليجية لوفود رياضية بدخول أراضيها، كما أن هناك زيارات أخرى أخذت طابعاً أقرب للعلني، والتي يعزوها مراقبون إلى رغبة الإدارة الأمريكية في جس النبض العربي قبل إعلان مبادرة السلام، وسعي الإسرائيليين لتطبيع العلاقة مع الدول العربية وتجاوز الإرادة الفلسطينية، في خطوة تهدف لفصل المسارين بعضهما عن بعض، أو للضغط على الفلسطينيين لخفض سقف التطبيع.
لكن حتى الآن تتمسك السلطة الفلسطينية بمطلب إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي يرفض جميع مقترحات السلام المقدمة، ويعمل بشكل واضح على تقويض أركان السلطة ومؤسساتها، خاصة في مدينة القدس. في المقابل تصرّ حركات المقاومة على رفض كل أشكال التطبيع، وترى أن “التطبيع” خيانة لشعوب المنطقة وقيمها وأخلاقها، وغدر بتضحيات الشعب الفلسطيني. ويعزز هذا التوجه المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية التي تشهدها فلسطين المحتلة والتي أطلق عليها اسم “مسيرات العودة”.

الموقف العربي
لعل البيان الختامي للاتحاد البرلماني العربي الذي انعقد في العاصمة الأردنية عمان في 4/3/2019 أكبر دليل على رفض التطبيع، حيث ورد في بيان المشاركين: “لأن شعار مؤتمرنا “القدس عاصمة أبدية لدولة فلسطين”، فإن الاتحاد البرلماني العربي يؤكد أن واحدة من أهم خطوات دعم الأشقاء الفلسطينيين، تتطلب وقف كافة أشكال التقارب والتطبيع مع المحتل الإسرائيلي، وعليه ندعو إلى موقف الحزم والثبات بصد كل أبواب التطبيع مع إسرائيل”.
وحتى اعتراض السعودية والإمارات ومصر على بند عدم التطبيع مع “إسرائيل” لا يشكل أي أهمية في هذا المقام، لأنه لا يعدو تسجيل موقف غير مفهوم الأسباب، ولن يحظى بدعم شعبي وهو الشيء الذي أكده رئيس مجلس النواب الأردني، عاطف الطراونة، أن “الشعوب العربية ترفض جملة وتفصيلاً التقارب والتطبيع مع إسرائيل وأن البرلمان العربي يرضخ لإرادة الشعوب العربية”.
لذلك إن رفض التطبيع ودعم المقاطعة هي ترجمة عملية لدعم القضية والشعب الفلسطيني، وهذا لن يتم إلا عبر تعرية المحاولات الدولية الدؤوبة لتشييعه وتسويقه من خلال دعم الأشقاء الفلسطينيين بكافة الوسائل، والتركيز بشكل متواصل على مركزية القضية الفلسطينية، والتأكيد في المنابر الدولية والمحلية أن أي حل يتجاوز الحقوق الفلسطينية المنصوص عليها في قرارات الشرعية الدولية والمتوافق عليها في المبادرة العربية للسلام هو حل غير قابل للحياة.
من هنا فإن التمسك بالمبادرة العربية للسلام كإطار مرجعي لأي تسوية نهائية للقضية الفلسطينية هو الطريق الوحيد لمواجهة غياب الإدارة الدولية في ضمان الحل العادل لحقوق الشعب الفلسطيني بعد أن تحولت الولايات المتحدة الأمريكية إلى دولة منحازة، ولم تعد وسيطاً نزيهاً في عملية السلام. وما دامت تنتهج سياسة أحادية في قراراتها وغير محايدة تصب في الانحياز لصالح المحتل الإسرائيلي، وآخرها القرار غير الشرعي المتعلق بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والذي سيجعل عملية السلام في الشرق الأوسط في مهب الريح، فإنه من الواجب أن تتوحد جميع الأصوات العروبية في وجه هذا المشروع التطبيعي.