ثقافةصحيفة البعث

اتجــاه واحــد

لم يعتد في حياته كلها أن يلبس ساعة أو أن يسأل عن الوقت، لكنه وبالمقابل لم يتأخر يوما عن عمله أو عن أي موعد آخر. كان يحسب الوقت بإحساسه ويعرف التفاصيل من دورة الحياة المحيطة به أي طلوع الشمس وانتصافها ومن ثم غروبها شيئا فشيئا، وعند المساء كان يراقب السماء ويعد النجوم ويميز الاتجاهات. علاقته بالتكنولوجيا كانت معدومة، لا يملك إلا هاتفا أرضيا ورثه عن أبيه وتلفازا بقناتين محليتين. لم يشتر جهازا خلويا ولا جهاز كمبيوتر وكان يكتفي بقراءة الأخبار من الصحف وسماعها من مذياع قديم. حتى قصة شعره لم يغيرها منذ أن كان طالبا في المدرسة، يميل بالمشط إلى اتجاه اليمين، اليمين فقط ولا مجال لإقناعه بالجهة الأخرى على الإطلاق. ملابسه دائما مكوية بدقة وحدّية تجرح كالسيف.. الفضل كله لمكواة الفحم الحجرية.
منذ فترة تدهورت سيارته وهوت إلى الوادي، تدحرج جسده كالكرة عدة مرات قبل أن تستقبله كومة كبيرة من “الدّيس”، خرج بصعوبة والدم يسيل من رأسه حتى قدميه. كان الوقت ليلا والظلام مطبقا على كل شيء لم يكن يملك أي وسيلة تساعده على التواصل مع أي شخص. مرت حياته أمامه كشريط فيلم سينمائي، تذكر ذنوبه كلها، ندم على أمور اقترفها وأخرى تركها للانتظار، ضحك على نكت سمعها يوما من رفاقه واتهمهم بقلة الأدب. كل شيء حضر ليذكره بحياته مرغما وكأنها لحظة الاقتراب من العالم الآخر. وفي خضم كل هذه الذكريات والتخبطات تذكر جدّه، ذاك الرجل الذي لم يبتسم بحياته مرة واحدة، بقي عبوسا وقطبة حاجبيه رافقته إلى مثواه الأخير، لكنه كان ذكيا ولماحا ولم يترك كتابا إلا وقرأه ومن بينها كتاب عن حركة النجوم وحساب الاتجاهات بالاعتماد على النجم القطبي. كان هذا الكتاب هدية الجد له عندما نجح في الثانوية، وحب الفضول دفعه لقراءته ومحاولة تطبيق معلوماته. كان يصعد إلى السطح ليلا ويراقب، عين على الكتاب وعين على السماء وبعد عدة محاولات نجح في تحديد الاتجاهات وكاد يقفز من على السطح من شدة فرحه “شكرا أيها الجد العبوس، يبدو أنك ستؤجل سفري إليك” هكذا حدّث نفسه.
ومن يومها، وبعد الحادث الذي تعرض له ونجاته بأعجوبة عن طريق تحديد الشمال والعثور على طريق يؤدي إلى الأتستراد، قرر أن يهتم أكثر وأن يترك العبثية لأصحابها، وقرر أن يهتم بالوقت وأن يشتري لنفسه ساعة من تلك التي تعلق بها بوصلة وجهاز خلوي مع اشتراك بالإنترنت وخدمة تحديد المواقع. سيترك الشمس بحالها ويكف عن مراقبة استيقاظها وغفوتها, فلا مجال للاتحاد مع الطبيعة في هذه الأيام لأنها تغيرت أيضا وأصبحت تتصرف على كيفها. الفصول مثلا تأتي على مزاجها وبالتوقيت الذي يعجبها، الأراضي والمحاصيل لم تعد تحبل إلا بالحقن الهرموني.. نسيت أيام الهوى. الصحراء أكلت كل شيء، والمياه تصارع من أجل البقاء. كل ما يحصل غير طبيعي ومثير للدهشة وهو بكل عِناد مُصرّ على التجاهل وعدم الاكتراث وكأنه يعيش في كوكب آخر. رحم الله جده الذي لم يستطع أحد أن يمون عليه بابتسامة.
بعد التعديل الذي طرأ على حياته، ودخوله عالم التغيير والتكنولوجيا، لم يعد يأتي على موعد، دائما مستعجل يركض ولا يلحق شيئا، ثيابه ارتخت ولم تعد بتلك الحدّية، حتى الكتب والصحف تركها ولحق بصفحات الإنترنت, لم يعد يهتم لأمر نجوم وكره الاتجاهات المتعارضة التي أودت إلى الخراب، لكن شيئا وحيدا لم يتغير وبقي على حاله وبنفس الاتجاه، شعره المتجه إلى اليمين، لم ينجح الحلاق بإزاحته من مكانه بعد كل هذه السنين.

ندى محمود القيم