الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

ريح الجولان الرَّخية..!

 

 

 

حسن حميد

أكاد أعرف قرى الجولان قرية قرية، وأعرف أهلها فرداً فرداً، وأعرف عاداتها وتقاليدها وأعرافها وتصوراتها منذ أن عببتُ من هوائها العليل، ومنذ أن ركضت في دروبها، وحول بيادرها، ومنذ أن شممت أزاهيرها، وآخيتُ حقولها وأشجارها الباذخة الجمال والهيبة، أشجار السنديان والبلوط والخروب والبطم، وشجيرات الريحان والسدر والطيون!
بلى، أعرف رجومها ودروبها التي جعلت القرى والأودية والتلال تتلاقى، وأعرف شدو النايات التي تشيل بالأحلام حتى تصير غيوماً طوّافة في سماوات القرى التي راحت تتقارب فيما بينها حتى ليراها المطلّ عليها من علوة كأنها عقد من خرز ملون ساحر، وأعرف طيورها ومواسمها؛ طيور الزارزير السود المنقطة بحبيبات بيض فتصير مثل طيور الحبش الرومية التي لا عمل لها في النهارات الرائقة سوى تقليد الطواويس في مشية البخترة والاستعراض أمام إناث الحبش والدجاج والبط والأوز، وأعرف طيور القطا والحجل والحباري ومواسم تكاثرها، وأعشاش بيوضها، وجولانها في الحقول بين سنابل القمح والشعير والشوفان، وقرب جداول الماء والغدران، أعرف الطيور الصغيرة التي كانت تلاعبنا نحن الأطفال الصغار فوق الأراضي الفضية المنبسطة كالأكف، أراضي البيادر التي لا تغادرها المؤانسة، وهي تعرف أننا ننصب لها الفخاخ الصغيرة كي نفرح بصيدها، كم كانت تخادعنا وتعذبنا، وكم خادعناها وعذّبناها كي تصير صيداً بين أيدينا، فنمضي بها فوق أقدامنا الطائرة نحو البيوت لنُري صيدنا للأجداد والجدات، أعرف نباتات السنيرية والجليثون، والدريهمة، والبسباس، والكلخ، والهندباء، والخبيزة، والحميضة، والقرصعنة، والمرير، كم جمعناها وحملناها بين أذرعنا الصغيرة طيّاً على صدورنا الراجّة ونعود بها إلى البيوت، يا لنباتات السنيرية التي كانت أطول من قامتنا، ويا لنباتات الكلخ المدهشة بحضورها العرائشي العالي التي تشبه عرائش القصب التي تؤاخي بيوت قرانا، ويا لأكواز الكلخ التي كنا نعود بها إلى بيوتنا، فتفرح الأمهات والجدات بما جادت به علينا عرائش الكلخ من فائض النعمة، وأعرف غدران الجولان التي كانت ساحة لملتقى الرعيان وقطعان الماشية، ففي وقت الظهيرة تصير الغدران أشبه بالقرى وقد أحاطت بها قطعان الغنم والماعز والبقر، ويا لوقتنا الجميل حين يصدر الرعيان بقطعانهم بعيداً عن الغدران التي تصير قرى للماء نستحم بها، ونصخب داخلها، وأعرف عيون الماء التي كنا نشرب منها، والصبايا الذاهبات إليها والآيبات منها، وكأنهن في استعراض للجمال، والأطوال، وأناقة المشي، فوق الدروب التي سميناها بدروب العشاق لأن عدداً من الشبان يماشون الدروب أيضاً من أجل نظرة أو كلمة أو لمسة أو مواعدة لحبيبة طال عليها أرق الليل، وعذّبتها الأسئلة الكاوية، وأعرف دكاكين القرى وأبوابها الملونة العالية، وأصابع الكعيكبان، وقفران التمر، وما تشتريه الفرنكات القليلة التي استحوذنا عليها، أو ما يشتريه بيض الدجاج والحبش والبط التي كنا نلتصها خلسة من الخمم، أو ما تشتريه طاسة الذرة أو القمح من دوائر المشبك القمرية أو حبيبات العوامة اللامعة مثل البللور. وأعرف المدرسة، يا لهيبتها، وقد علاها العلم أبو الألوان الأربعة الذي لا يشبع من الرفرفة التي كنا نسميها السلام على كل من يمر بالمدرسة، يا لأبواب المدرسة البهيجة، ويا لجدرانها التي زنرتها أبيات الشعر، ومنها بيت عمر أبو ريشة: تقضي الرجولةُ أن نمدَّ جسومنا جسراً فقل لرفاقنا أن يعبروا، ويا لنشيد حماة الديار الذي به نفتتح النهارات ودروس القراءة والحساب والرسم والرياضة، وأعرف أيضاً سيارة القرية الوحيدة، سيارة معتوق الكبيرة التي يركبها صباحاً بعض أهل القرية قاصدين القنيطرة المدينة الحلم..
أعرف كل هذا الذي قرَّ في واعيتي، وصدري، وروحي، فأصير أكثر طولاً، وصفاء، وحضوراً.. وأنا أطل على قولة رئيس حكومة العدو (النتن ياهو) الداعية إلى إقامة (مستوطنة باسم ترامب) فوق أرض الجولان.. فلا أرى القولة إلا محواً باهتاً، وضباباً تدفعه بعيداً ريح الجولان الرخية!
Hasanhamid55@yahoo.com