الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

مرآة الزمن

سلوى عباس

يكرس الأهل كل جهدهم أن يكون أبناؤهم كما يرغبون ليعوضوا من خلالهم ما لم يستطيعوا هم تحقيقه لأنفسهم، فيبدؤون برسم حياتهم ومستقبلهم، بما يتناسب ومكانتهم الاجتماعية، فكيف لسيدة يهمها كثيراً “بريستيجها” الاجتماعي أن تظهر بين صديقاتها وتشغلهن بالحديث عن ابنها أو ابنتها إذا لم يكونوا بمستوى دراسي يليق أن تتباهى به، فالفرق كبير بالنسبة لها عندما تُفاخر بابنها الذي يدرس الطب أو الهندسة عن أن تقول: إنه يدرس الموسيقا أو الفنون لقناعتها أن هذه المجالات الدراسية ليست ذات قيمة، وبالتالي هناك أشخاص يدرسون في المجال الذي يستفيدون منه مهنياً، فيبحثون عن هامش للمبادرة الفردية ضمن خيارات متعددة حتى لا يضطرون للتنازل في خياراتهم، خاصة وأنه في فترة من الزمن غالبية الناس توجهوا لدراسة الطب والهندسة، وذهبوا في بعثات خارجية للدراسة حتى لو كانوا لا يملكون المؤهل والكفاءة لهذه الدراسة، وبعد أن ينتهوا من دراستهم التي فرضها عليهم قانون الحياة، يبحثون عن سبل أخرى يحققون من خلالها هواياتهم ومواهبهم التي يرغبون بها، فكم من طبيب أو مهندس نراهم يبدعون في الأدب أو الفن، ويفشلون في الاختصاص الذي امتهنوه، فمن الضروري أن تكون هناك علاقة حرة وندية تحكم عملنا حتى نستطيع أن نقدم شيئاً يُحسب لنا ونترك فيه بصمتنا.
هذا الحال من ضيق هامش النظر لدى الأهل في نظرتهم لمستقبل أبنائهم مستمر في كل الأزمان، ففي فترة الامتحان التي يستنفر لها الآن الأهل وأولادهم وتتحول البيوت إلى معسكرات مغلقة بعيداً عن كل تفاصيل الحياة إلا ما يتعلق بالكتاب والدراسة، نرى الأهل متوترين ومتخوفين منه أكثر من أولادهم، فيبدو الأمر كما لو أنهم هم الذين يُمتحنون، وربما، لو كان الأمر هكذا لكان أكثر راحة بالنسبة لهم، فنراهم يلاحقونهم بالإرشادات والتوجيهات التي قد تضرهم أكثر مما تنفعهم، خاصة وأن هذا الجيل هو ابن معطيات هذا العصر، جيل يحمل من الوعي ما يفوق عمره الزمني بكثير، يعيش بمعطيات حضارية تتطلب منه مسابقة الزمن لمواكبة تطوراته المتوالدة بسرعة هائلة، ومع ذلك نراهم يدركون تماماً كيف يتعاملون مع التطورات التقنية وكيف يستخدمونها، حتى إننا نحن الذين نكبرهم بأجيال نبدو أميين بمعلوماتنا حول هذه التقنيات رغم حاجتنا الضرورية لها، وتعاملنا اليومي معها، وحتى عندما يطرحون مشاكلهم يفاجئونا بأسلوب طرحهم لها، ووعيهم لأبعادها، الأمر الذي يتطلب منا التوقف كثيراً أمامها، فهذا الجيل يعرف ماذا يريد، وكيف يمكن أن يحصل على ما يرغب، ويمتلك القدرة على طرح أية فكرة تدور في ذهنه أمام أهله دون حساب للمعايير والقيم التي كانت سائدة من قبل، فالأهل الذين ظنوا لفترة أنهم يملكون زمام الأمور مع أولادهم، يبدو أنه غاب عن ذهنهم أن الزمن تغيّر والمقاييس اختلفت وعجلة الزمن لا تعود إلى الوراء، فهل لنا أن نستوعب اهتمامات هذا الجيل، ونقتنع أنهم خلقوا لزمان غير زماننا، وأنهم أبناء الحياة، وننظر للاختصاصات الدراسية من حيث رغباتهم واهتماماتهم ليكونوا ناجحين في مجال هم اختاروه ويتحملون مسؤوليته.