الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

تحولات الذئب

 

د. نضال الصالح

لم يحدث يوماً أن فرّطتُ بكتاب أهديَ إليّ، وشأني في تنظيم كلّ ما يعنيني كنتُ، ولمّا أزل، وقبل أن أشرع في قراءة الكتاب، أسارع إلى تصوير صفحة الإهداء، وإلى وضع الصورة في مجلد أحتفظ به في جهاز “الكومبيوتر” لديّ. وكنتُ، وقبل أن أتعرف إلى “الماسح الضوئي”، وإلى “الكومبيوتر”، من قبل، أهرع إلى أقرب مكتبة لديها جهاز تصوير، وأصوّر صفحة الإهداء، وأحتفظ بها مع مثيلاتها في مظروف خاص، ثمّ ما إن أصبح لدي ماسح ضوئي”، حتى أنجزت، في غير وقت، تصوير تلك الإهداءات، ودفعت بها إلى شقيقاتها في المجلد الخاص
في هذا المجلد، حتى اليوم، ستمئة واثنتان وأربعون صورة، أي أنه كان في مكتبتي التي أحرقها الإرهاب ستمئة واثنان وأربعون كتاباً كان شعراء، وكتّاب قصة ورواية ومسرحية، وباحثون، أهدوها إليّ تقديراً من كلّ منهم، ما من ريب، في أنني سأقرأ ما كتبَ، وعلى الأغلب في أنني سأكتب عمّا كتب، وعلى الأخصّ في أن يشكّل ما كتب مصدراً أو مرجعاً فيما يمكن أن أنجز مستقبَلاً من بحث، أو دراسة، أو مقال.
وغالباً، وفي أوقات غير متباعدة، يحلو لي أن أعود إلى هذا المجلد، فأمعن، وأنعم، النظر في الصفحات، وأستعيد ظرفي الزمان والمكان اللذين استقرّ، خلالهما وأوّل مرّة، هذا الكتاب أو ذاك بين يديّ، ثمّ أقلّب صفحات القلب بين أحوال أولئك الكتّاب. بين كاتب ومبدع بحقّ، ومؤمن بشرف الكلمة ورسالتها، ومخلص، قولاً وفعلاً، لقيم الحقّ والخير والجمال، وقابض على معاني الصدق والصفاء والنقاء والإخلاص والثبات على الموقف مهما يكن من جمر تلك المعاني، وحرائقها، ودروب جلجلتها، وآخر كاتب ومبدع بحقّ، ولكنّ الكتابة لديه أداة لتسوّل شهرة هنا، ونجومية هناك، ومجد زائف هنا، وحضور خُلّب هناك، ولذلك فلا شيء يؤرقه، أو يعذّبه، إذا ما كان هذا اليوم هنا، وكان في آخر هناك، أي إذا ما قال أو فعل شيئاً هنا، ثمّ قال وفعل نقيضه هناك، ليس في المكان فحسب، بل في الزمان بآن، ثمّ ثالث ليس كاتباً ولا مبدعاً، بل أشبه بـ”خيال المآتة”، ويعتقد، ويتوهم، ويوسوس شيطان الزيف له، وشياطين التصفيق المجّاني، أنّه كاتب، ومبدع، وربّما يتفوّق، كتابة وإبداعاً، على الخالدين في مدوّنة الكتابة والإبداع الكونية لا العربية وحدها، ثمّ رابع، فخامس، فسادس، فعاشر، له ولمن ينتمي إلى مجاله الصفات التي تخصه، وتميزه، وتحدّد علاقته بالكتابة والإبداع من جهة، وبالإيمان بشرف الكلمة ورسالتها من جهة ثانية، وبإخلاصه لقيم.. من جهة ثالثة، وبقبضه على معاني.. من جهة رابعة، وبوعيه وقيمه وأخلاقه من الجهات كلها.
في المجلد صور لغير إهداء من غير كاتب، إهداء “مدجج” بالإطراء، والمديح، والتبجيل، والتمجيد، حتى ليخال قارئه، وهو يمضي من سطر إلى آخر، أنه مكتوبٌ بماء العين، وذوب الروح، ودم القلب، ثمّ ما إنْ أنشبت هذه الذئبة الحرب مخالبها في الجسد السوريّ، وتكشّف ما تحت هذا الجسد ممّن لم يكن أحد يتوقّع، فتغيّر الزمان، حتى تغير الماء إلى زيت مغليّ، وذوب الروح إلى لظى، ودم القلب إلى بئر نفط، وحتى صارت تعبيرات من مثل: “الناقد الكبير”، و”الأستاذ الجليل”، و”المعلّم المتميّز”، و… إلى نقيضها أو تكاد.