رأيصحيفة البعث

في نعي “صفقة القرن”

 

 

رغم أن ما تسرّب منها لايزال في حكم القليل والمحدود، إلا أن بوسعنا القول: إن ما تسمّى بـ “صفقة القرن” إنما تعكس حتى الآن، وضمن توافق زمني نادر الحدوث، ضحالة التفكير الاستراتيجي لدى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والحاجة السعودية المعلنة إلى نمط تفكير “من خارج الصندوق”.. التفكير في شيء “دراماتيكي”.. “شيء ما يحدث الصدمة، مثل حل السلطة الفلسطينية.. فماذا يوجد لدينا غير الاحتجاج؟” – كما صرّح الوزير الجبير!.
بالطبع، يدرك الكثيرون أن لدى الأسرة الحاكمة في السعودية، في زمن الانتقال من سلالة ابن سعود إلى سلالة سلمان، الكثير مما تستطيع فعله غير الاحتجاج (وقد فعلت في واقع الأمر!)، إذ تكفي نظرة خاطفة إلى الأوضاع في اليمن وسورية وليبيا والسودان، لنقدّر كم هي مكلفة وكارثية الترتيبات التي ستقود ابن سلمان إلى العرش، آمناً مطمئناً، على أكف دعم اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي ترتيبات تتجاوز حدود التآمر على قلب الأنظمة، وتمويل وتسليح وتجنيد الإرهابيين، لتلامس هذه المرّة الخطوط الحمر، وتتجرأ على الثوابت القومية والدينية، وتتحدّى الرفض الرسمي والشعبي العربي، وتقايض على الحقوق الوطنية الثابتة والأساسية للشعب الفلسطيني ببناء دولته المستقلة؛ ولقد قالها كوشنر صراحة: “إذا قلتَ “دولتين” فهذا يعني شيئاً للإسرائيليين، وشيئاً آخر للفلسطينيين، دعونا لا نستخدم هذا المصطلح!”.
هي “صفقة” بالفعل، ولا علاقة لها مطلقاً بأي شكل من التسويات أو الحلول.. صفقة بالإكراه محمّلة على ذات الحماقة الأمريكية والصلف السعودي.. تبدأ بإلغاء حق العودة وتوطين اللاجئين، ولا تنتهي بمشاريع “عقارية” عملاقة متعدّدة الأطراف، هي ثمن التخلي عن القضية الفلسطينية، وفق مبدأ “القدس برة، واللاجئون برة، والمستوطنات أمر واقع، ومناطق C للضم”، مقابل “تحسين نوعية الحياة” للفلسطينيين، مع التركيز بشكل أقل على “تطلعاتهم السياسية”. ولكن حتى تحسين الأحوال المعيشية سيستغرق الكثير من الوقت، ولن يكون متاحاً على الفور، وسوف يتطلّب القبول أولاً الموافقة على “الحدود” الجديدة، تليها إصلاحات سياسية جوهرية داخل السلطة الفلسطينية، وجهود شاملة لمكافحة الفساد، وإرساء سيادة القانون بشكل فعّال، وهي الوصفة الأمريكية “الجاهزة والمعلنة” للتحكّم بأي نظام سياسي ومصادرة قراره السيادي، وخنق تطلعات أي شعب، وأخيراً سوف يتعيّن على ما تبقى من الشعب الفلسطيني “الجديد” انتظار المال الخليجي؛ أما ولي العهد السعودي فسوف يتقلّد – بفرمان ترامبي – الوصاية على كل المقدّسات الإسلامية، في مكة المكرمة والمدينة المنوّرة والقدس، كما كان البريطانيون قد قلّدوا جده “خدمة الحرمين الشريفين”.
مع ذلك، تبدو فرص النجاح ضعيفة، ويبقى الفشل هو السيناريو المحتمل الوحيد – رغم أن حجم التواطؤ الرسمي العربي لا يستهان به – حيث تواجه الصفقة تحديات كبيرة، وإمكانيات إفشال حقيقية، وفي مقدّمتها الرفض الفلسطيني، وتردّد المجتمع الدولي، وخصوصاً الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا، إضافة إلى المشاكل الداخلية التي يواجهها كل من ترامب ونتنياهو، مع احتمالات انفجار الوضع الفلسطيني في الضفة وأراضي الـ 48، فإن وجد الفلسطينيون على جانبي الخط الأخضر أنهم خسروا كل شيء، فلن تكون المواجهات إلا في قلب “إسرائيل”، ولن تنفع عندها أي محاولة لتمرير الصفقة من خلال “تأهيل” الحالة الفلسطينية، أو “تلميع” طرف فلسطيني للسير بمسار التسوية المطروح.
في رثاء “صفقة القرن”.. ما ينبغي أن نعيه جيداً هو أن تآكل بعض الأنظمة الخليجية بات يدفع بها للسطو على المصالح العليا للأمة العربية بتفويض أمريكي، وأنها باتت تنشد الحفاظ على عروشها من خلال الاقتطاع من حقوق “الأشقاء” في التاريخ والدم، ولكن مثل هذه السياسة علامة على التدهور والضعف، وهي تقوم على فرضية انهيار الوعي القومي وغياب الشارع العربي!!.
مثل هذا لم يكن.. ولن يكون.
بسام هاشم