اقتصادصحيفة البعث

رغم أنها الثانية اقتصادياً في الأهمية.. لا تزال “لمن استطاع إليها سبيلا”؟! “سياحتنا الداخلية” تقليدية ممجوجة وضعف إمكانياتها أضاع الكثير من العوائد

ليست نوعاً من السياحة العادية، ولا يجب أن تقارب كذلك، أو اعتبارها نوعاً من أنواع التنزه أو السيران، أو الرحلات السريعة، بل على العكس تماماً، إنها السياحة التي بإمكانها تعويض أي نقص طارئ في عدد الوافدين من السياح الأجانب القادمين من الخارج، خصوصاً في اقتصاديات البلدان النامية عموماً، التي تعتمد على عائدات السياحة إلى حدّ كبير، فكيف إن لم يكن هذا النقص طارئاً، وإنما أخذ سمة الاستمرار لسنوات عدة، كما هي الحال عندنا، وربما يستمر لأعوام أكثر؟!.

إنها السياحة الداخلية، التي تأتي ثانياً من حيث اهتمام سياسات التخطيط والتوجه السياحي، الذي يكون في معظمه متجهاً إلى السياحة الخارجية الوافدة، نظراً إلى عامل جلب وضخ العملة الصعبة في الاقتصاد المحلي، وبهذه النقطة تتفوق السياحة الخارجية الوافدة على السياحة الداخلية، رغم أهمية الأخيرة في تحريك الاقتصاد الوطني والمحلي، وهنا لو تمّ إحصاء ما أنفقه السوريون خلال الأزمة وما قبلها، من العملة الصعبة خارج سورية للسياحة خارجاً، لهالنا الرقم، ولأدركنا كم أضعنا من فرص!.

لم نستطع..؟!

هذا النوع من السياحة لم يستطع لا ما قبل الأزمة -رغم استتباب الأمن والأمان على كامل التراب الوطني آنذاك- ولا خلال الأزمة، تأمين متطلباتها لكي تكون رديفاً داعماً ومكملاً للسياحة الخارجية، أو حتى أن تكون بديلاً مرحلياً يعوّض خسارتنا للسياحة الخارجية، على الأقل في المناطق التي شهدت أماناً طوال الأزمة، ولا بعد توسع جغرافية الأمن والأمان بفضل تضحيات جيشنا الباسل، وخاصة في السنوات الثلاث الماضية؛ لم نستطع كوننا تعودنا النمطية الرتيبة في استثمار مثل هذا النوع، ولو رجعنا عقدين إلى الوراء لتأكد أن إدارتنا السياحية بقطاعيها العام والخاص لم تستطع إحداث أي فارق يذكر، علماً أننا قدمنا العديد من الأفكار حتى خلال الأزمة، كـ”سياحة الحروب” التي أصبحت لها مؤسسات وشركات سياحية عالمية كبيرة ومتخصّصة تسوق لهذا النوع، وهو ما كان يمكن لنا أن نترجمه من بوابة أن الأزمات تولد الفرص، ولاسيما بعد التنامي المهمّ والملفت على المستوى الدولي، للراغبين بالقيام بسياحة الحروب أو “السياحة المظلمة”، حيث يلبي هذا النوع دوافع الكثير من السياح في العالم، وتشهد أسواقها إقبالاً متزايداً.

 

للتذكير.. لعلّ..

إذا لم نستطع على هذه أو تلك، مع أن السياحة الداخلية –للتذكير فقط– مكّنت فرنسا في ثمانينيات القرن الماضي، من أن تعيد للفرنك الفرنسي مكانته أمام الدولار الأمريكي، بعد ما شهده من تراجع في سعر الصرف، وخلال سنة واحدة فقط، وقد حدث ما حدث بقرار حكومي واحد تمّ تعميمه على شركات السياحة الفرنسية والشعب الفرنسي، وملخصه: يمنع القيام برحلة سياحية خارج فرنسا، وهذا ما التزم الكل به، حيث لم يسجل سفر أي فرنسي للسياحة خارج فرنسا. أما عندنا -وبدلاً من أن نستفيد من التجربة الفرنسية- قمنا بمنح القروض المصرفية للسوريين الراغبين بالسياحة الخارجية…!؟، بالمقابل لم نشهد مثيلاً للطرح والقرض لتشجيع السوري على القيام بالسياحة داخل وطنه، الأولى بإنفاقه وأمواله!!.

 

مشكور سعيكم

عطفاً على ما سبق، مؤخراً وبعد سبات لوزارة سياحتنا وقطاعنا الخاص، وقبل بداية الموسم السياحي بقليل، ومن البوابة “الحمصية”، تذكرت وزارة السياحة والقطاع الخاص ممثلاً بالاتحاد والغرف السياحية، أن تقيم ورشة تحت عنوان ” تنشيط السياحة الداخلية”، الذي هو في حقيقته وتسميته “معرض عطلات”، أي عبارة عن دعوات لمكاتب السياحة والسفر لتقديم برامج سياحية تقليدية (رحلات سياحية) وتحديد أسعارها.

ولعلّ ما يمكن أن يُشكر عليه المجتمعون تأكيدهم أن السياحة جزء من احتياجات العائلة السورية وحق لها، وتكرار القول إنها تساهم في تنشيط الاقتصاد الوطني، لذلك كان هدف ورشتهم  تسليط الضوء على جميع المقومات والمقاصد السياحية، وإقامة أنشطة وفعاليات وخلق مقاصد سياحية جديدة في جميع المحافظات السورية طيلة أيام السنة بغية الحدّ من الموسمية، وذلك عبر تشجيع القطاع الخاص على تقديم عروض وبرامج سياحية تتناسب مع كافة الشرائح، وتوسيع الخارطة السياحية السورية.

كلام طالما سمعناه، وكالعادة في كل مرة يتلاشى مع انتهاء الحدث، فما من شيء على بساطته تم تحقيقه، لا الحدّ من الموسمية، ولا أي أمر يمكّن أصحاب الحق من حقهم، ولمن يدّعي عكس هذا فليرنا بيّنته، ونقصد أرقام وإحصائيات وعائدات سياحتنا الداخلية، التي ولغاية الآن لم تتمّ دراستها اقتصادياً كدور وحجم وإيرادات بشكل منفرد، وكذلك دراسة أسواقها وتوجهات تلك الأسواق حسب الشرائح المُشكلة للمجتمع السوري؟!.

قيمة مادية

ناهيكم عما تشكّله السياحة عامة والداخلية خاصة، من ناحية الإشباع السياحي الثقافي والاجتماعي، من خلال بوابة التراث الإنساني، سواء التراث الطبيعي أو الثقافي، كذلك هي تعمل على تحقيق نوع عالٍ من التوازن النفسي والاجتماعي والصحي البدني والفكري، هي في الآن معاً تشكل قيمة مادية غاية في الأهمية الاقتصادية، كونها تحدّ من تسرّب الدخل الوطني للخارج، عن طريق تشجيع الاستثمار السياحي داخل الدولة نفسها، وبالتالي تساهم في رفع مستوى فرص العمل للشباب العاطلين عن العمل في حال كان الاستثمار السياحي داخلياً.

معوقات مزمنة..!

من المؤكد أننا لم نستطع تذليل المعوقات التي تعترض عملية النهوض بسياحتنا الداخلية (اللهم ما ندر)، ولعلّ أول ما يواجه تنشيط هذا النوع في سورية انخفاض دخل الفرد الإجمالي، الأمر الذي يؤدي إلى عدم قدرته على القيام بها باعتبارها أضحت في خانة الكماليات، وانشغاله بتوفير الحاجات الأساسيّة أولاً، وما يُفاقم ارتفاع الأسعار وكثرة الضرائب فيما يتعلّق بتكاليف السياحة الداخليّة، إضافة إلى ضعف الحوافز التشجيعيّة الضروريّة التي تساهم في تنشيط الحركة السياحيّة الداخليّة.

وتمتد المعوقات إلى جودة الخدمات وعدم تنوع المنشآت السياحية القادرة سعرياً على تلبية متطلبات الشريحة ذات الدخل المحدود، لكونها خارج حدود تحملها المعيشي، ناهيكم عن وضع الطرق والخدمات عليها التي يحتاجها السائح، وعدم تهيئة بعض المناطق التي يذهب إليها السياح، وافتقادها للعديد من الضروريات خاصة الإقامة (معلولا مثلاً)، وأيضاً عدم الاهتمام والعناية الكافية والضروريّة بالأماكن الأثريّة وضعف الترويج لها داخل الدولة (أين هي الشواطئ المفتوحة مثالاً آخر..؟!)، وليس أخيراً محدوديّة تنوّع الأنشطة الترفيهية والبرامج المشجعة للسياحة والترفيه الموجهة لفئات المجتمع باختلافها، وضعف أو عدم الرغبة لدى الكثير من المواطنين في زيارة الأماكن والمعالم التاريخيّة والأثريّة في البلاد، ويرتبط ذلك بضعف الوعي السياحي والثقافي بأهميّة ومكانة هذه المعالم السياحيّة، والسبب غياب الترويج الفاعل لذلك.. خلاصة القول ما هكذا تكون الورش التي لم يعلم معظم السوريين بها، وسفير حمص وهو الفندق الذي أقيمت فيه ومن حضروا، لم يكونوا على مستوى هذه السفارة، لذلك ستظل سياحتنا الداخلية متاحة وفقط لمن استطاع لها سبيلا!!.

قسيم دحدل

Qassim1965@gmail.com