ثقافةصحيفة البعث

حارة الخِيام المبرقعة

أمام صفين متقابلين من الخِيام المبرقعة، الممتدة لمسافة تزيد على المئة متر من جانبي الطريق، الذي اخترعته أقدام الجنود بذهابهم وإيابهم، يوجد ما يشبه مدخل شارع ما، على جانبيه تتمايل بضعة أشجار كينا فتية، من يقف وينظر إلى شكل المكان ويمشي فيه، سيشعر فورا انه أمام مدخل حارة شعبية، حيث كل ما هو موجود في المكان، متداخل مع بعضه البعض بكثافة شديدة، أو كما يقال بالمحكية “مشربك” مع الآخر، فبين الخِيام عُلقت حبال الغسيل، وعليها تم نشر الثياب التي غسلها الجنود في فترة راحتهم، وهي تتشابه في معظمها، عدة بزات عسكرية كاملة،منها لا تزال بقع الدماء ثابتة على قماشتها للأبد، “فلت” عسكري يتكرر على كل حبل، بيجامات وجرابات عسكرية، ثياب داخلية مختلفة الألوان خاصة بالجنود أيضا، تروح وتجيء ظلال تلك المنشورات الرطبة على الأرض، فتدب حياة الظلال التي تأخذ عنهم نوبة حرس، فأصحابها يأخذون قسطا من راحة قصيرة، بعد عدة أيام سهر متواصل على الجبهة.

لا أحد يعلم كيف ومتى انتظمت الحياة في هذا الحي بصفته المهيبة”المبرقع” وتطورت لتصبح كأي حارة شعبية ولكن من قماش “خاكي”، هناك خيمة بمثابة بقالية الحارة، تبيع التبغ والمعلبات، أنواع من البسكويت، شاي، متة، قهوة، شراب غازي، مساحيق غسيل وصابون معطر، وربما بشيء من الرفاهية النادرة، قد تصطف أمامها كل عدة أسابيع، بعض من صناديق الخضار النص عُمر، وستكون لوجبة “جظ مظ” يطبخها أحد الجنود، تفوح رائحتها في الحارة المرتجلة، أن تُحرك الغدد الحسية التي كادت تصبح نسيا منسيا عند الشباب الطيبة،فعدا عن كونها طبخة، فإن رائحتها وهي تُطبخ، تشبه رائحة الطعام الذي كانوا يشمونه في مطابخهم من تنانير أُمهاتهم وابتسامتها الرؤوم، يصبح الكل يريد أن يأكل الأكلة ذاتها، وهكذا تنفد الخضراوات بلحظة، يوجد أيضا “بريز” كهرباء للبراد، ومنه تم أخذ عدة خطوط كهربائية لشحن الموبايلات، مقابل أجر بسيط مع هاتف لتحويل الوحدات الخاصة بالاتصالات، أيضا الخيمة الطبية، انتصبت إلى جانبها صيدلية فيها العديد من أنواع الدواء الذي لم يكن متوفرا في المكان، مسكنات ألم، حبوب التهاب، سيتامول، مواسير مرهمية، ضمادات من النخب الجيد، قطن نظيف ومعقمات “كلاس” وغيرها.

بعد فترة من الوقت، ارتفعت بعناية عدة جدران من الحجر الموجود في المكان، وتم العمل عليها لتصبح بمثابة منافع عامة، تنتظم خلف مجموعة من الخيام المتقاربة التي اشترك سكانها في إنجاز الأمر، ليصبح لكل 5 خيم مطبخا خاصا وحماما مع دوش.

غالبا ما كانت “المونة” الرئيسية “زيت-زعتر-زيتون-شنكليش-مربى مشمش، قريشة، هبول تين، عدا عن الطعام المطبوخ الذي حمله العائدون من شبه إجازة، هي من الموجودات شبه الدائمة في الحارة، وفي شهر رمضان، تصبح أبواب تلك الخيم لا تهدأ، خيمة تسكب للثانية “سكبة” زيتون مع زيدة بلدي و”فحلين بصل”، وذاك جندي يحمل عدة أرغفة خبز راكضا قبل وقت الآذان إلى خيمة مجاورة، وهذه طنجرة مجدرة تدور على الصحون، ثم فجأة يمكن أن يخرج الجميع وهم بأتم جاهزيتهم للحرب، وعلى الجبهة آخر ما يفكر فيه الرجال معداتهم، فوليمة الحرب أشهى، ورائحة البارود، تُحرك وجدانهم كعمود البخور والورد، من يعد له وقت أن يفكر في معدته بينما قلبه يمكن أن يطير حرفيا؟

وكأي حارة يذهب معظم سكانها إلى العمل والجامعات والحياة عموما، يذهب أيضا أولئك الرجال إلى عملهم، الحرب، مع فارق بسيط بينهم وبين سكان الحارة الحقيقية، فغالبا ما يعود جميع سكانها إلى بيوتهم بعد نهاية العمل، يجلسون إلى سفرة الطعام، ثم قيلولة أو تعسيلة، بعدها يصبح لا شيء أجمل من كأس شاي، ومتابعة المسلسلات، ولا مانع من كتابة قصيدة على الحائط الأزرق، أو إنزال صورة للوطن وإلى جانبها كُتب “كلنا فداء للوطن”، أو الإدلاء برأي ما عن عمل عسكري ما! قبل الذهاب للنوم السريع الذوبان في كأس العتمة، أما عند سكان الحارة المبرقعة، فبعضهم يعود، وبعضهم لا يعود، وبعضهم يعود ولا يعود بنفس الوقت، بعضهم يكمل وجبته وبعضهم لا يأكل بضعة لقيمات منها، منهم من يلحق أن يوصي رفاق السلاح “قولوا لأمي”، ومنهم حتى هذه لا يلحق قولها، قبل أن يصبح غيمة.

ما من وقت في حارة الخِيام التي صار أمام العديد منها، بقع صغيرة مسيجة من الأرض، مُجانبة لباب كل خيمة، وهذه الجنان الصغيرة المساحة، بهي نضارها، خَضَارها يشق القلب، وثمة وردة أو اثنتان نبتتا بين الأعشاب الغضة فيها، يرفع الله من بينهما الشمس كل يوم.

يأتي الشتاء ويروح، وكذا تفعل بقية الفصول، والحارة التي بدأت ببضعة خيم عسكرية مرتجلة، صارت وطنا صغيرا للعديد من الرجال، أولئك الذين لا يمكن حتى لأهلهم أن يفرقوا بين أحدهم والآخر، لا في ملامحه ولا في طباعه، ولا حتى في ذاكرته وصوته، أو ما يوجد في رأسه وقلبه من بقايا مفتتة، لخطط كان قد وضعها منذ زمن طويل لمسيرة حياته، لكن الحرب جاءت وزارت بلاده، فخرج إليها كمن يمضي في نزهة على الأقدام، ومن عاشر القوم 40 يوما صار منهم، فما بالكم بمن قضوا دهورا مع بعضهم البعض بين فك الموت وفك الحياة الناقصة، هؤلاء كيف لا يصبحون واحدا؟

وفي الوقت الذي يختلف فقهاء الفن على أي مسلسل أجمل، وأي ممثلة أكثر جرأة، هذا الكاتب بلا أصل وذاك (حباب)، تنهض الفنون السبعة وتنام عند أقدام سكان حارة الخِيِام، فهم الدراما الحقيقية، والقصيدة البديعة، والكتاب الفلسفي الأهم، والرواية الأجمل، والفيلم السينمائي الذي لا جائزة تليق به على كافة المستويات، هؤلاء حكاية يخطها النور، ومسرحية أبطالها آلهة الأولمب،أغنية يرددها النبع، صبحٌ اجتمع مرة واحدة في قطرة ندى، ورجولة تذوي قلوب كل نساء الأرض وملائكة السماء أمام سطوة عطرها، فإن كانت “الكلاشينكوف” وقعت في حبهم، ولا تضع رأسها إلا على أكتافهم لتغفو، فما حال القلوب؟

تمّام علي بركات