ثقافةصحيفة البعث

أحـــــلام.. علــــى قارعــــة العيـــــد

 

إنه أول أيام العيد، استيقظ هادي على أصوات أولاد الحي يلعبون كرة القدم في الملعب القريب من منزله، غسل وجهه ووقف على الشرفة يشاهدهم بحب، شعر وكأن أصواتهم الفتية اختلطت بزقزقة العصافير، فغدت جزءاً من صباح مشرق، وأن أجسادهم الفتية اتحدت مع ضوء الشمس فغدت ذهبية رائعة، وأن ابتساماتهم العذبة تتماهى بصفاء السماء.
كان هادي لا يزال يراقبهم حينما دخلت والدته مبتسمة، ترتدي ثوباً أبيض ناعماً، اقترب منها وقبّل يديها: كل عام وأنت بخير يا أمي.
-كل عام وأنت بخير يا ولدي، فليجعل الله أيامك جميلة كهذا الصباح، هيا تعال نحتسي القهوة مع أخيك شادي، إنه ينتظرنا.
بعد احتساء قهوته مع والدته وأخيه، تذكر هادي أن لديه موعداً مهماً مع سهى، حبيبته التي أحبها منذ سنتين، والتي تعرف عليها أثناء عودته في إحدى إجازاته إلى القرية، عندما كان جندياً في الجيش.. سهى التي انتظرته يوماً بيوم خلال هاتين السنتين، والتي تنتظره اليوم ليحددا موعدا للخطوبة، ويكللا هذا الحب بزواج سعيد. ارتدى هادي ملابسه وخرج من منزله سعيداً، كان يمشي في الطريق ويخاطب كل شيء يصادفه، يهنئ الشمس بانتصار رجالها، رجال الجيش العربي السوري، يبارك للأشجار هواءها النقي الذي بدأت تستنشقه منذ إعلان النصر وانتهاء الحرب، يسلم على العصافير ويدعوها لمائدة حب في صباح اليوم التالي، أما الشوارع فلم تكن مزدحمة كثيراً، وكانت السيارات تسير وكأنها في نزهة جميلة، كل شيء كان جميلا في هذا الصباح.. كل شيء.
انتظر باص النقل الداخلي، وهو يخرج جواله من جيبه ويتصل بصديقه أيهم، وخاصة أن لديه أكثر من ساعة على موعده مع سهى.
كان أيهم صديق هادي في الجامعة، درسا معا اللغة العربية، ثم ومع بداية الأحداث تطوعا معاً في الجيش، وبقيا سنة بعيدين عن بعضهما إلى أن استطاع هادي الانتقال إلى حيث يوجد أيهم، وهكذا أصبحا رفيقي سلاح، كما كانا رفيقي كتاب.
أيهم الآن في أشد أوقاته فرحاً، فقد رزق بطفله الذي انتظره أربع سنوات، وكأن الله شاء أن يغمر الفرح قلبه دفعة واحدة، نجاح عملية والده التي أجراها لعينيه يوم أمس، وولادة ابنه الأول، وإعلان انتهاء الحرب، وعودة الأمن والأمان إلى ربوع الوطن. تسرّح هادي وأيهم من الخدمة العسكرية منذ فترة، وعاش كل واحد منهما حياته بهدوء، وهما الآن يجلسان معاً يخططان لإقامة مشروع مشترك، يكون عوناً لهما في حياتهما، يوظفان فيه ما تعلماه خلال سنوات الدراسة في الجامعة.
أيهم: ما رأيك أن نفتتح مكتبة نضم فيها كل الكتب المفيدة، وخاصة لطلاب الجامعات!.
هادي: فكرة جميلة، لكنني أرى الإفادة الأكبر بافتتاح معهد لتعليم اللغة العربية، ونوسعه في المستقبل ليصبح معهداً لتعليم اللغات.
بعد انتهاء حديثه مع أيهم، كانت الساعة قد قاربت الثانية عشرة، فكر هادي أن يستقل التاكسي، لكنه كان مازال معجباً بجمال الصباح، لذلك ظل يتمشى باتجاه منزل سهى.
كانت الأفكار تتراود إلى ذهنه، سننجب أربعة أطفال، سأعلمهم حب الوطن، كما علمني والدي، وسيكون النشيد الوطني هو أول ما سيحفظونه، سيكونون مثل أمهم طيبين وصادقين، وسيكونون مثلي محبين للحياة وللجمال.
تخيل نفسه يلاعب ابنه، ويركضا في الحديقة، وتخيل سهى تعد لهم الطعام، وتراقبهم بحب، والدتي ستحبهم كثيرا، فهي تحب الأطفال، وتسعد بوجودهم، خاصة أنني سأربيهم على الأخلاق الحميدة، كما ربتني أنا وأخي.
أخيرا وصل إلى منزل سهى، كان الطريق فاصلاً بينهما، وكانت سهى تنتظره على الشرفة وتلوح له بيدها.
مد يده ولوح لها وهو يبتسم ويتجه إليها.
فجأة، استيقظ هادي على صوت والدته تربت على كتفه وهي تحمل بيديها دواء.
-استيقظ يا ولدي فقد حان موعد تناول الدواء.
نظر إليها بدهشة وكأنما يتساءل عما جرى، ولم تلبس الأسود، وما الدواء الذي يجب أن يتناوله، جال بنظره في الغرفة وهو يقول في نفسه: لماذا أنا هنا.
مدت والدته يدها ومسحت شعره وقالت: كل عام وأنت بخير يا ولدي، اليوم أول أيام العيد، أعاده الله عليك بالخير، وكتب لك الشفاء العاجل، ثم نظرت إلى النافذة وقالت: رحمة الله عليك يا شادي.
كان يراقب حركات شفاه والدته، وتحضر في ذاكرته المعركة التي خاضها مع رفاقه ضد الإرهابيين، وإصابة زميله أيهم برصاصة في رأسه، تذكر كيف ظل يحاول سحب أيهم، عله ينقذ حياته، وكيف كانت الشهادة أسرع بكثير من خطوات هادي التي حاولت أن تسابق الزمن.
تذكر أن اللحظة التي دفن أيهم، ووري جسده الثرى، كان صوت طفله يخرج للمرة الأولى إلى الحياة، طفله الذي انتظره أكثر من أربع سنوات، وأن زوجة أيهم توفيت إثر الولادة الصعبة، وأن والده أصيب بالعمى من شدة حزنه على استشهاد ولده.
تذكر كيف تخلت عنه سهى بعد إصابته وقطع قدميه، وكيف لم تزره ولا حتى مرة واحدة خلال مدة بقائه في المستشفى، وتذكر أخاه، الذي اختطفته المجموعات الإرهابية منذ سنة ونصف، والذي قتلته مع عدد كبير من الشبان، لأنهم كانوا جنوداً في الجيش السوري.. تذكر أن كل ما شاهده كان حلماً جميلاً، قد يموت ولا يتحقق. أغمض عينيه مرة أخرى وهو يسمع صوت الأطفال يلعبون في الشارع، وضحكاتهم الغضة ترتفع كلما سدد أحدهم هدفاً، وتعود أقدامهم للركض خلف الكرة، متسائلاً: هل سيعيش هؤلاء الأطفال الحلم ذاته؟!

مادلين جليس