دراساتصحيفة البعث

الدراما التي يصطنعها ترامب

ترجمة : لمى عجاج

عن الهيرالد تريبيون 9/6/2019

بعد تسعة أيام من الدراما في انتظار ما سيصدر عن زوبعة التهديدات التي أثارها ترامب بعد أن وضع أصبعه على الزناد مهدداً بإطلاق رصاصته بفرض رسوم جمركية على واردات بلاده من المكسيك كسلاح تهديد لإجبارها على كبح تدفق المهاجرين، غير آبهٍ بمصير القطاعات الصناعية للعديد من الدول فضلاً عن أعداد هائلة من المستهلكين والعمال الذين عاشوا حالةً من الخوف والقلق وظلوا تحت أهبة الاستعداد غير متأكدين مما سيحدث فمئات ملايين الدولارات على المحك، متجاهلاً تحذيرات حلفائه الجمهوريين ومستشاريه من مخاطر اندلاع حرب تجارية عالمية.

أعلن ترامب أخيراً وبشكل مفاجئ عن حل الأزمة بإلغاء الرسوم الجمركية الجديدة التي علّقها بعد أن هدّد بفرضها على المكسيك وذلك قبل 48 ساعة من سريان مفعولها لأنه وفي اللحظة الأخيرة أبرم اتفاق الهجرة الذي يسعى إليه. تسعة أيام استغرقها عقل ترامب للتفكير في إيجاد مخرجٍ لهذه القضية الشائكة التي تؤرقه والتي تعتبر من أبرز القضايا التي تشكل تحدياً خطيراً يواجهه ويواجه بلاده، فلّما بدا له الهدف صعب المنال ولا يمكن الوصول إليه بالوسائل التقليدية، لجأ إلى أسلوب مغاير عبر اتخاذ إجراءات صارمة وتحديد موعد نهائي وطلب التنازلات وإبرام صفقة – حقيقية أو زائفة- ليتجنب النتائج الخطيرة لنهجه المتهور ويعلن انتصاره لأن جلّ ما يريده هو جذب الانتباه للقضية التي بين يديه وتمريرها دون الالتفات إلى الطريقة أو إلى النتائج المحتملة التي قد تترتب عنها.

إنها الدراما التي يقوم ترامب بصنعها ليكون هو طبعاً البطل فيها، فترامب يقوم بافتعال المواقف المتطرفة والقضايا التي تنذر بالخطر ليجبر الدول الأخرى على اتخاذ مواقف سريعة تجاهها بحجة أنها قضايا ملحة تتطلب حلول وتكتيكات مستعجلة لينكشف فيما بعد القناع الذي يتخفى وراءه، ويدّعي بأن هذا ما يتطلبه صنع القرار السياسي الذي يريد أن يفرضه بالقوة على الساحة السياسية ليُظهر للجميع بأنه يحرز تقدماً في حين أن القضية الأساسية لم تحل فعلياً، وهذا ما أشار إليه نيد برايس، المسؤول السابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بالقول “هذا نمط شهدناه منذ الأيام الأولى لهذه الإدارة”، فالرئيس الأمريكي يصنع الأزمة ليحرض قاعدته لخوض التحدي ويترك تعريف النجاح غير محدد ويتظاهر بلعب كرةٍ صعبة ويدعي تحقيق الفوز بينما الواقع يُظهر تزييفه للحقائق ليزخرف صورته أمام الجميع ويظهر بمظهر البطل في الدراما التي صنعها بنفسه، يضيف برايس ” إنه الفوز بالنسبة لترامب ولكنه ليس إلا الخسارة للشعب الأمريكي، وفي كثيرٍ من الأحيان قاعدة ترامب أولاً وقبل أي أحد”، لقد شهدنا هذا السيناريو نفسه قبل شهرين فقط عندما هدد السيد ترامب بإغلاق الحدود مع المكسيك بشكل كامل ما لم تتخذ الإجراءات اللازمة لوقف الهجرة غير الشرعية، وعدت المكسيك بالعمل على ذلك فسحب ترامب تهديده، لكن لاحقاً ازداد تدفق المهاجرين مما دفع السيد ترامب إلى إصدار تهديدٍ جديد في 30 أيار وهذه المرة لفرض رسوم جمركية إضافية.

أقلق هذا التهديد المكسيك بما يكفي للحد الذي جعل وزير خارجيتها يهرع إلى واشنطن ويَعِد مرة أخرى ببذل المزيد من الجهد بموجب الاتفاق الذي تم الإعلان عنه ليلة الجمعة الماضية، حيث وافقت المكسيك على نشر حرسها الوطني الذي تم تشكيله مؤخراً في جميع أنحاء البلاد لمنع المهاجرين من الوصول إلى الولايات المتحدة وتوسيع برنامج يجعل بعض المهاجرين ينتظرون في المكسيك أثناء الاستماع إلى طلبات لجوئهم في الولايات المتحدة، وبذلك تفادت المكسيك عرضاً لطالما رفضته بأن يتم النظر في ملفات المهاجرين على أرضها قبل أن يحاولوا الوصول إلى الولايات المتحدة ووافقت بدل ذلك على مواصلة الحديث عن مثل هذه الخطوة على مدار التسعين يوماً القادمة.

صفّق المدافعون عن اتخاذ إجراءات أكثر صرامة بشأن الهجرة على صفقة السيد ترامب واعتبروا أن تكتيكاته القاسية في التفاوض قد أثمرت، لقد كان الرؤساء الآخرون الذين سبقوا ترامب أكثر حكمة في إصدار التهديدات خوفاً من العواقب التي ستنالهم إذا اضطروا إلى المتابعة في تهديدهم أو خوفاً من الضرر الذي سيلحق بمصداقيتهم في حال لم يفعلوا، فالخبراء أكدوا أنه لم يمر عليهم أي رئيس آخر استخدم هذا الكم الهائل من التهديدات كأداة سياسية في فترة رئاسته مثلما فعل السيد ترامب.

لقد كان دوماً يهدد بمقاضاة الخصوم وإعادة كتابة قوانين التشهير لمعاقبة المؤسسات الإعلامية، كما هدد بسحب الترخيص منNBC، وبسحب القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية بسبب نزاعٍ تجاري وبحبس هيلاري كلينتون (في حين اتخذ موقفاً مخالفاً عندما هددت نانسي بيلوسي بالقيام بالشيء نفسه) وهدد بإطلاق شرائط لمحادثاته مع جيمس بي كومي عندما كان مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، وهدد بمعاقبة جنرال موتورز لإغلاقها المصنع، في حين كانت بعض التهديدات كارثية عندما أطلقها بـ ” النار والغضب” ضد كورية الديمقراطية “والنهاية الرسمية لإيران” إذا ما تعرض أي منهما بالأذى للولايات المتحدة الأمريكية، وتهديداته المتكررة للمستشار الخاص روبرت س مولر التي وصلت إلى حد عرقلة العدالة، وتهديده بمقاطعة اقتصادية ضد  AT&T للتأثير على التغطية الإخبارية لشركتها الفرعية  CNN والذي تم تجاهله بشكلٍ كبير حتى من قبل المستثمرين.

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل ارتفعت أسهم الشركة إلى 5,7 في المائة منذ أن أصدر ترامب التهديد، وعندما فرض تعريفة جمركية على الصلب والألمنيوم على الحلفاء الأمريكيين وانسحب من اتفاق الرئيس أوباما النووي مع إيران واتفاق باريس بشأن تغير المناخ، وفي الشتاء الماضي تراجع السيد ترامب عن تهديده بزيادة الرسوم الجمركية على الصين ليتابعها هذا الربيع بعد توقف المحادثات الإضافية، كما سبق وأن تحدث مراراً وتكراراً عن إغلاق الحكومة لاستخراج الأموال من الكونغرس لبناء جداره الحكومي ثم تابع تهديده بإعلان حالة الطوارئ الوطنية وإنفاق الأموال على الحائط تحت أي ظرفٍ كان.

إن صوت قعقعة السيوف هي الوسيلة التي يستخدمها ترامب للضغط على حلفائه قبل خصومه وهذا ما جعله يتجاهل رفض الجمهوريين في مجلس الشيوخ والشركات الأمريكية احتمال فرض تعريفة جمركية على الواردات المكسيكية، فالتجارة والأعمال تحتاج إلى الثقة والقدرة على التنبؤ قبل أي شيءٍ آخر وهذا هو بالضبط  ما تحتاجه واشنطن، فالشيء الوحيد الذي يمكن التنبؤ به حول رئاسة ترامب هو عدم القدرة على التنبؤ، وهذا هو ما يريده ترامب عندما كتب في كتابه الانتخابي “لا أريد أن يعرف الناس بالضبط ما أفعله- أو أفكر فيه، أحب أن أكون غير متوقع فهذا يجعلهم غير قادرين على الحفاظ على توازنهم”. وبناءً على أقواله فقد نجح بلا شك بأن يبقي الجميع متذبذبين في حالةٍ من عدم التوازن لمدة تسعة أيام.