دراساتصحيفة البعث

زيارة ترامب لبريطانيا على وقع أزمة البريكست تكشف المستور

ترجمة : لمى عجاج
عن مجلة فانيتي فير
لعل سخرية القدر هي التي جعلت تيريزا ماي تقضي ساعاتها الأخيرة كرئيسة للوزراء برفقة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أعطى لنفسه الحق بالتدخل في أزمة البريكست للدرجة التي أصبح فيها عرابها، وصل ترامب إلى المملكة المتحدة ليبدأ جولة جامحة محفوفة بالمخاطر الدبلوماسية نظراً لما سبق جولته من تصريحات قاسية جسّدت فظاظة شخصيته وسط حمى الشعبوية التي انتشرت بين البلدين ( الشعبوية التي تدعو إلى العنصرية وكراهية الأجانب) والتي حاولت ماي خلال فترة رئاستها العمل على تخفيف حدتها، لكن ماي اضطرت مكرهةً على الضحك على ما قاله ترامب خلال اجتماع يوم الثلاثاء عندما عبر عن أمله في “بقائها” وإقامة تحالف اقتصادي أقوى مع الولايات المتحدة بعد أن تغادر بلادها الاتحاد الأوروبي، على الرغم من معرفتها ضمنياً أنه يقول هذا من باب السخرية والاستخفاف، فهو يعلم بأنها ستستقيل يوم الجمعة، أي أن ترامب وبطريقة تراجيدية هزلية سخر من تاريخ ماي ومن جهودها ومحاولاتها الحثيثة خلال الثلاث سنوات الماضية لإنقاذ بريطانيا من الخروج من الاتحاد الأوروبي والبقاء فيه، سُبقت زيارة ترامب بتظاهرات لآلاف البريطانيين في العاصمة لندن احتجاجاً على هذه الزيارة وعلى السياسات التي يتبعها ترامب في إدارة مختلف القضايا أُطلق عليها “كرنفال المقاومة” وشارك في الاحتجاج نشطاء في مجال البيئة والتغير المناخي ومناهضة العنصرية وأنصار حقوق المرأة، وقام المتظاهرون بإطلاق بالون ترامب الرضيع العملاق الذي طار محلقاً للسنة الثانية حول ويستمنستر في حديقة بالقرب من البرلمان البريطاني قبالة جمهور من المحتشدين حيث سبق وأن أطلق في زيارته الماضية، كما قامت مجموعة أخرى من الناشطين البريطانيين بوضع تقييمات الموافقة على الرئيس ترامب على برج لندن في إشارة إلى تقييمه المنخفض وبأنه غير محبوب، وسخروا من ترامب بعرض صورة لغطاء بيسبول مزيّن بالمدمرة الأمريكية جون س ماكين على الجزء الخارجي من متحف الشمع الشهير مدام توسو( في إشارة للكره المتبادل بين ترامب والسيناتور الراحل جون س ماكين). لكن كعادته قام ترامب بتكذيب هذه الأخبار وتزييفها وعندما أرغمه الصحفيون على التعليق بشأن عدم الترحيب بزيارته من قبل فئات واسعة من المجتمع البريطاني خلال مؤتمر مشترك له مع ماي قال: “إنهم يحبونني” وغرّد عبر حسابه على تويتر قائلاً: “لقد كان هناك آلاف الناس المحتفين بزيارتي في شوارع لندن، سمعت أن هناك احتجاجات كبيرة ضدي، لكن أين هي الاحتجاجات ؟! أنا لا أرى أية احتجاجات أنها الحشود الضخمة التي لا ترغب وسائل الإعلام الفاسدة في أن تظهرها والتي احتشدت لدعم الولايات المتحدة الأمريكية ولدعمي لأنهم يحبونني”. لقد جاءت زيارة ترامب في الفترة التي لا زالت فيها بريطانيا تعيش حالةً من الانشقاق والتناقض وإنكار الذات، فبعد ثلاث سنوات من الانتظار لم يتم إحراز أي تقدم أو وضع خطة عمل حول آلية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فقد ظلت المملكة المتحدة منقسمة ومعزولة ومشلولة بشكل كبير، وتعيش في أزمة سياسية دائمة فقد استقال ستة وثلاثون عضواً من أعضاء الحكومة في الأشهر 12 الماضية، كما تخلى الناخبون عن الحزبيين الرئيسيين لفشلهما في تحديد موقفهما من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى فشل جميع أنواع مفاوضات كافكا- اسكوا مع بروكسل والتي لم تصل إلى أي حل، فضلاً عن تقديم ماي لاتفاقية الانسحاب لثلاث مرات على التوالي للبرلمان البريطاني ليتم رفضها في كل مرة، لكن لا يزال التغيير متوقعاً لتزداد معه فرص ترامب في التأثير على المشهد السياسي البريطاني المتقلب، ولا يزال السباق من أجل خلافة تيريزا ماي مستمراً، فأسماء المرشحين لم تعد خافية حيث أعلن 11 مرشحاً ترشحهم رسمياً لمنصب رئاسة الحزب المحافظ البريطاني وفي الأسابيع المقبلة سيحصل حوالي 124000عضو مدفوع الأجر في حزب المحافظين على حق اختيار رئيس الوزراء المقبل الذي سيصبح ثاني زعيم غير منتخب ( غالبيتهم من الذكور البيض المشككين في الاتحاد الأوروبي) ليرثوا تركة البريكست الملغّمة وفوقها بلاد مقسمة يقدر عدد سكانها بحوالي 65مليون نسمة، فبالنسبة لشخصٍ يدّعي رفع شعار السياسة القومية التي باتت تجتاح العالم الغربي كترامب شكّل هذا المنعطف الشديد الانحدار نقطة ضعف عَمِل على استغلالها لمصلحته ليستطيع صياغة المسار الذي ستتبعه بريطانيا في السنوات المقبلة بعد أن يخلص من جولته السياحية في حدائق القصر ومتحف غرف حرب تشرشل، حيث استعرض قوته بشكلٍ واضحٍ وصريح يوم الثلاثاء عندما رفض الاجتماع مع زعيم حزب العمال جيريمي كوربين (القوة السلبية بلا شك) لكنه ألح في دعوة أمل داونينج ستريت مايكل جوف والخادم المتزلف نايجل فاراج حيث دعا ترامب بريطانيا إلى ترشيحه ليكون رئيس حزب بريكست ليكون مفاوضاً بشأن التوصل لاتفاق نهائي حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فعلى حد زعم ترامب ” هو يحبه كثيراً وهو لديه الكثير ليقدمه” فهو من المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حيث تتردد أصداء مباركة ترامب وموافقته على نايجل فاراج في الانتخابات الوشيكة القادمة في مدينة بيتربورو، فحزب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يأمل في الحصول على أول مقعد له في ويستمنستر بعد نجاحه في الانتخابات الأوروبية. لم تحمل زيارة ترامب لبريطانيا الكثير من الدلالات، لكنها حملت الكثير بالنسبة لترامب فقد كان توقيتها مذهلاً مع تعثر مضيفيه وحاجتهم الماسة إلى بعض الصفقات التجارية فمن الواضح أنه كان لهذه الزيارة فعالية كبيرة في زيادة حجم الضغط ولم تكن فقط لالتقاط الصور مع أفراد العائلة المالكة، صحيح أن ترامب أشاد يوم الثلاثاء بالتحالف ” الاستثنائي” بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة لكنه أيضاً شدد على أن (كل شيءٍ سيكون مطروحاً على الطاولة) بما في ذلك الخدمة الصحية الوطنية في بريطانيا والتي تتمتع باهتمام ودعم كبير(ليعود ترامب ليناقض أقواله بسرعة في مقابلة أجراها لاحقاً مع الصحفي والمذيع بيرس مورغان حتى بعد أن دحضها فاراج). لقد عبر البريطانيون عن قلقهم من اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة وتهديدها لنظام الرعاية الصحية، حيث استغل جيريمي كوربين زعيم حزب العمال احتشاد الجماهير في وايتهول لينتقد تعليقات ترامب موجهاً خطابه إليهم قائلاً ” بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يجب أن لا يكون حصان طروادة للشركات الامبريالية الأمريكية” وبأن حزب العمال سوف يقاتل حتى الرمق الأخير للحفاظ على نظام الرعاية الصحية كنظام مجاني عند الحاجة بوصفه حقاً من حقوق الإنسان” لكن المقياس الحقيقي سيكون في إلى أي مدى ستصل العلاقة بين ترامب وبين المرشحين، فمعظم المرشحين بما فيهم “جوف” يزعمون بأنهم قادرون على استعادة شرائح الناخبين الذين انشقوا عن حزب البريكست بزعامة فاراج في انتخابات الاتحاد الأوروبي كاحتجاج على فشل المحافظين في إنهاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فعلى الرغم من أن الأغلبية لا يدعمون الخروج بلا صفقة فإن الكثير من أعضاء حزب المحافظين يريد ذلك، وبالتالي فإن كل من دومينيك راب وبوجو هما من بين الكثيرين الذين يرفعون هذه الراية والتي تعتبر “جنوناً اقتصادياً” من قبل الكثير من نظرائهم المثقفين. إنها بالطبع واحدة من خطط اللعب الراديكالية التي يلعبها ترامب في إيهام البريطانيين بأن كل شخص معارض لصفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو عدو يجب سحقه وتدميره وإظهاره بمظهر الشخص الذي يفتقر إلى المثابرة والتصميم على اتخاذ القرارات الصعبة وإنجاز المهمة، لقد أوضحت المؤسسة البريطانية وجهة نظرها في مقاربة ترامب المثيرة للجدل والمعدية تجاه النظام العالمي وإن كان بطريقة مبطنة وغير معلنة فقد قدمت تيريزا ماي لترامب نسخة مؤطرة من مسودة وينستون تشرشل الشخصية للميثاق الأطلسي وهو النص التأسيسي للأمم المتحدة الذي وقعه إلى جانب الرئيس روزفلت في عام 1941كهدية وداع في ختام زيارته، وقالت الملكة في المأدبة الرسمية التي أقامتها على شرف الرئيس ترامب “بعد التضحيات المشتركة التي خضناها في الحرب العالمية الثانية عملت بريطانيا مع الولايات المتحدة وحلفاء آخرين لبناء مجموعة من المؤسسات الدولية لضمان عدم تكرار أهوال الحروب ،فالعالم قد تغير ونحن ندرك تماماً الهدف الأصلي لهذه الحروب وعلينا أن نعمل سوياً للحفاظ على هذا السلام”. ربما كان على ترامب أن يجتهد أكثر في التخفيف من لهجته الحادة في التهديد خلال زيارته للقصر الملكي ليبدو أكثر لطفاً أمام مضيفيه، فالأمور ليست واضحة تماماً في بريطانيا المنهكة في الوقت الحالي، فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو أكبر من أي رئيس وسوف يتخطى ترامب ويطغى على بوريس جونسون في حال أصبح رئيساً للوزراء لأنه سيكون أمام خيارين، إما الذهاب بحزم ومواجهة كارثة اقتصادية أو أنه سيميل إلى اللين الذي سيفقده قاعدته وفي كلتا الحالتين فإن سياسة ترامب وبريكست النهمة سوف تلتهمه كما فعلت مع تيريزا ماي على الأكيد.