دراساتصحيفة البعث

هل سيضحي ترامب بالأمريكيين إرضاء لإسرائيل؟

 

يشهد التاريخ بأن أعمال الولايات المتحدة الوحشية قد أصابت العالم بفجائع عديدة لم تسلم هي نفسها من تبعاتها، لكن الإدارات الأمريكية المتتابعة لم توقف ماكينة الحرب أبداً، بل إنها تعشقها، مهما حصدت من أرواح وتسببت بويلات في داخل الولايات المتحدة وخارجها.
لا تعد السياسة الخارجية للولايات المتحدة عادلة بأي مقياس، ولكن على الأقل في ظل الإدارات السابقة كانت متوقعة إلى حد ما، فأي دولة تنتخب زعيماً اشتراكياً ستعمل الولايات المتحدة على زعزعة استقرارها إلى أن يتم وضع زعيم آخر يرضيها، وغالباً بطريقة بربرية وهمجية، وستتعرض الدول التي تمتلك النفط في الشرق الأوسط للقصف، وسيتم تمويل إسرائيل بمبالغ هائلة من أموال الضرائب الأمريكية.
ويستمر العنف في ظل الرئيس الحالي المضطرب دونالد ترامب، لكن مكان ووقت ظهور هذا العنف أمر محير في بعض الأحيان، ويهدد ترامب إيران بالدمار الكامل في العديد من “تغريداته” والبيانات الأخرى، وهو أمر يطرب أذني كل من مستشار الأمن القومي جون بولتون، ووزير الخارجية مايك بومبيو (الذي يتعبد في الهيكل الإسرائيلي)، ويريد ترامب من ناحية أخرى أن يفي بوعده الانتخابي بعدم شن أي حروب. دفع هذا الانقسام النقاد السياسيين إلى القول إن باب البيت الأبيض الدوار سيدور عما قريب مرة أخرى، حيث سيجد بولتون و/ أو بومبيو نفسيهما في الخارج. وماذا سيفعله زعيم أكثر دول العالم طغياناً عندها؟
فرض ترامب عقوبات قاسية على إيران مجدداً، في انتهاك للقانون الأمريكي، منذ أن وافق الكونغرس على خطة العمل الشاملة المشتركة التي لا يمكن إلغاؤها إلا من قبل الكونغرس. وانسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل المشتركة ينتهك القانون الدولي كذلك، ولكن ترامب يعتقد أن القوانين لا تنطبق عليه، وهذا يصح على أي رئيس أمريكي سابق، لكن معظمهم حاولوا أن يكونوا أكثر تحفظاً حيال ذلك، ويبدو أن ترامب يعتقد بأن محاولة شل الاقتصاد الإيراني ستجعل الحكومة الإيرانية تزحف إليه للتفاوض على صفقة جديدة، فبالنهاية أعلن ترامب أنه أفضل من يبرم الصفقات في العالم.
وقد يتساءل المرء لماذا يا ترى ستقبل إيران، أو أي حكومة أخرى، بعقد صفقة مع الولايات المتحدة؟! ألم يثبت ترامب أن كلام الحكومة الأمريكية أجوف؟ قال ترامب إنه مستعد للتفاهم مع قادة إيران لحل القضايا التي، في رأيه ورأي مستشاريه وأتباعه المختلين عقلياً، تهدد وجود الولايات المتحدة، تلك الدولة القوية.
وإن أراد ترامب وأعوانه حقاً جلب إيران إلى طاولة المفاوضات أقترح عليهم الالتزام بخطة العمل المشتركة، نعم، ارفع العقوبات عنها وتوقف عن تهديد الحلفاء بالعقوبات إذا تعاملوا تجارياً مع إيران، وربما عندها يستطيع الرئيس الأمريكي عبر القنوات الدبلوماسية الاتصال بقادة إيران، وعليه أن يصرح أن هذه الخطة هي اتفاق ممتاز، لكنْ هناك نقطة أو نقطتان ترغب الولايات المتحدة في مناقشتهما.
وإنني أعتقد أن الحكومة الإيرانية، شأنها شأن أي دولة، لديها الحق والمسؤولية في حماية حدودها ومواطنيها؛ لذلك، في حالة إيران، إن امتلاك أسلحة دفاعية قوية بما يكفي لردع أي هجمة من جانب الولايات المتحدة أو إسرائيل وهزمها لهو أمر بالغ الأهمية. وفي حين أؤمن أنه كلما قلّ عدد الأسلحة النووية الموجودة في العالم كنّا أكثر أماناً، إلا أنني أعتقد أيضاً أنه إذا امتلكت إسرائيل والولايات المتحدة -وهما دولتان عنيفتان مارقتان- أسلحة نووية فينبغي على إيران أن تمتلك مثلها كذلك.
وقال بعضهم: لكي تمتثل إيران لمطالب الولايات المتحدة، يجب أن تتوقف عن كونها إيران، وهذا يلائم الولايات المتحدة تماماً، فمنذ ما يقارب ثلاثة عقود، بعد أن أطاحت الولايات المتحدة بحكومة رئيس الوزراء محمد مصدق المنتخبة ديمقراطياً، ونصبت شاه إيران المتوحش ملكاً، فعلت إيران كل ما أرادته الولايات المتحدة. ومن كان يهتم في الحكومة الأمريكية بقيام الشاه بقمع شعب إيران بوحشية على مدار ستة وعشرين عاماً؟ ومنذ الإطاحة بالشاه في عام 1979 وحتى عام 2015، لم تتوقف الولايات المتحدة عن عدوانها وعدائها لتلك الأمة. وأخيراً، في تلك السنة تم التوقيع على خطة العمل المشتركة، عندما قدم باراك أوباما اقتراحات لإيران. قل ما شئت عن أوباما (ولك الحق، فيداه ملطختان بالدماء مثل جميع أسلافه)، لكنه على الأقل قام بالتواصل مع إيران لتحسين حياة الإيرانيين العاديين الذين أضنتهم العقوبات، ولتقليل أحد الأعمال العدائية العديدة التي يبدو أن الولايات المتحدة تعشقها.
لكن تمهل! إذا أقنعت الولايات المتحدة وعدد قليل من الدول الأخرى إيران بالتخلي عن برنامجها النووي، الذي أكد المسؤولون الإيرانيون على الدوام أنه لأغراض سلمية وليس لصنع أسلحة نووية، وإن قيل إن مثل هذا الإجراء سيعزز الأمان في العالم، فمن سيعترض على ذلك؟ إسرائيل بالطبع!
يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي المتوحش والعنصري، بنيامين نتنياهو، منذ عقود إن إيران على وشك صنع أسلحة نووية، واغتالت إسرائيل العلماء النوويين الإيرانيين، ويتساءل المرء كيف سيكون رد فعل الولايات المتحدة لو أرسلت فرنسا مثلاً قتلة إلى العاصمة واشنطن لاغتيال علمائها النوويين، لكن نتنياهو كان موضع ترحيب في قاعات الكونغرس التي يسيطر عليها الديمقراطيون ليتحدث عن شرور خطة العمل المشتركة، ولحث الكونغرس على التصويت ضدها. لكن لسوء حظه، لم يحدث الأمر كما رام، ففي حين اشترى اللوبي الإسرائيلي معظم أعضاء الكونغرس، واجه أعضاء الكونغرس هؤلاء معضلة: هل يناصرون مطلب إسرائيل، ويمنون بالتالي رئيسهم الديمقراطي بهزيمة سياسية، أم يتحدون إسرائيل، ويخسرون بالتالي مزيداً من المساهمات في الحملات الانتخابية، لكن مع تأمين النصر لـ أوباما، وقرروا في النهاية نصرة زميلهم الديمقراطي أوباما، وإحباط الصهيوني العنصري نتنياهو.
لكن ذلك حدث في ذلك الوقت، والحاضر هو ما يهمنا، إذ انسحب ترامب من خطة العمل المشتركة خلافاً لمشورة جميع مستشاريه ولمشورة الدول الأخرى الموقعة على الاتفاقية وخلافاً لما أراده المجتمع الدولي بأسره باستثناء إسرائيل والسعودية، ويتهم المتحدثون باسم الولايات المتحدة إيران برعاية الإرهاب وهم الذين يمثلون أكثر دول العالم بطشاً وطغياناً، إنها تهمة تبعث على الحيرة حقاً عندما تصدر عن الولايات المتحدة التي تقصف حالياً عدة دول وتحتل أفغانستان وترهب شعبها وتدعم الإرهابيين وتمولهم في سورية وفنزويلا، أما إيران فتساعد حلفاءها، ولم تغزُ بلداً آخر منذ عام 1798، أي قبل 221 سنة.
ما الخطوة التالية للولايات المتحدة؟ هل سيسير ترامب بالأمة إلى حافة الهاوية بغزو إيران؟ هل بإمكانه أن يدرك قوة إيران وقوة حلفائها، بمن فيهم روسيا؟ هل يريد حقاً التضحية بأرواح لا حصر لها، بمن فيهم أرواح الجنود الأمريكيين، إرضاء لإسرائيل؟
الوقت وحده من سيجيب عن هذه الأسئلة، ونأمل ألا تعني الإجابات مزيداً من الحروب والعنف وإراقة الدماء في الشرق الأوسط وحول العالم، وسيترتب على غزو الولايات المتحدة أو إسرائيل لإيران عواقب وخيمة في جميع أنحاء الشرق الأوسط والولايات المتحدة، وقد يؤدي إلى حريق يلتهم العالم بأسره، ونأمل حتى أن يدرك ترامب المضطرب والواهم ذلك، وألا يكون السبب في حدوث مثل هذه الكارثة.

علاء العطار