دراساتصحيفة البعث

الحرب والسياسة في ضوء الأزمة السورية

الدكتور سليم بركات

بين الحرب والسياسة علاقة متلازمة من الصعب فرزها ما دامت الحرب على مدى التاريخ امتداداً للسياسة، وهذا يعني أن لا حرب بدون سياسة، وليس العكس صحيح، كما يعني أن علاقة الحرب بالسياسة هي علاقة الوسيلة بالغاية. ولما كانت الحرب بحد ذاتها غاية من حيث المنهج،  فهي في العرف السياسي استثناء لأن السلام والاستقرار يمثلان  القاعدة العامة، التي تصبح من خلالها الحرب هي الحالة الشاذة عن المألوف العام بالنسبة لكل دولة، وهذا يؤكد أن لا تتبنى الدولة أي دولة حالة الحرب في سياستها الخارجية، حتى لا يرجح المنهج العدواني التدميري على حساب المنهج السلمي العقلاني في العلاقات الدولية.

لقد شغلت مسألة الحرب والسلام الفكر البشري منذ مغامراته الأولى، وهي تشغله اليوم في هذا الهزيع الأخير من زمن العولمة بشكل متعمد ومبيّت، ويأتي في طليعة أسباب هذا الانشغال، الحالة الاجتماعية الجشعة الملتصقة بالنشاط البشري والتي تمثل سمة أساسية دائمة الحضور في الحياة السياسية للدول الاستعمارية، انشغال يتراوح بين التبرير الفلسفي للحرب، وبين الإدانة الأخلاقية لها، الأمر الذي يؤكد أن اشكالية الحرب تشكل ظاهرة ملتصقة بحركة التاريخ ومرتبطة بمسيرة الشعوب لما تسببه من ويلات ومآسي، ولما ينتج عنها من منافع وفوائد، وإن كانت مضارها أكثر من منافعها.

لقد سعى البشر عبر التاريخ ومنهم العرب إلى إيقاف الحروب، وحاولوا إحلال السلام فيما بينهم ومع غيرهم، لكنهم فشلوا وبقي السلم مجرد حلم في دائرة التخيل، بعيداً عن الواقع. وليس أدل على ذلك كالحروب التاريخية التي عاشها العرب في وجدانهم القومي، وفي كل لحظة من تاريخهم منذ الغزوات الأولى للروح العربية القومية وحتى يومنا هذا عبر الحروب الصليبية ومعارك استعادة بيت المقدس، وصولاً إلى حروب التحرير والاستقلال في القرن المنصرم، وإلى الحرب التي يعيشونها الآن وهم مغمورون بأحداثها وسحرها، دون البحث عن الأسباب الجوهرية لها، لمعالجتها بالحوار طلباً للأمن والاستقرار، وكل ما يراهنون عليه في هذا الخضم هو كيفية توقف هذه الحرب، حرصاً على وحدتهم في مواجهة أعدائهم.

من هذا المنطلق يمكن القول إذا كانت العلاقة بين الحرب والسياسة علاقة عضوية، فليس من الضرورة أن تفضي الهزيمة العسكرية إلى هزيمة سياسية، وإنما من الضرورة أن تفضي الهزيمة السياسية إلى هزيمة عسكرية، وهذا ما يتطلب تقويم الدور الأمريكي لاكتشاف مدى فاعليته في إحداث هذه الحروب، ليس على صعيد المنطقة فحسب، وإنما على صعيد العالم أيضاً، الأمر الذي يجعل من هذا الدور  في مواجهة أزمتين، الأولى أزمة خيار الحرب، والثانية أزمة الهزيمة السياسية المؤدية إلى هزيمة عسكرية، الأولى تمثل القاعدة العامة للسياسة الأمريكية الخارجية، التي تدفع بالخيار العسكري الأمريكي إلى ما يخالف السياق العام الذي تتعامل معه دول العالم،  والذي يؤكد أن السلم في العلاقات الدولية هو القاعدة وليس الحرب، وهذا بدوره يجعل من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في عزلة عن السياسة الدولية القائمة. أما الأزمة الثانية التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية فهي الهزيمة السياسية ليس على مستوى المنطقة فقط، وإنما على مستوى الداخل الأمريكي، والذي ربما وصل إلى حالة من التكامل في مواجهة إدارة ترامب المسببة لهذه السياسة  بأنواعها العسكرية، والاقتصادية، والسياسية.

ما تشير إليه التقارير الإعلامية والاستخبارية، أن الوضع الداخلي الأمريكي قد أصبح متفاقماً ويشير إلى حقيقتين، الأولى سحب الثقة من ترامب وخلعه من سدة الرئاسة، والثانية الإبقاء على رئاسته حتى الجولة الرئاسية القادمة والتي ستكون في العام القادم،  وعلى الرغم من النصائح والدراسات والتقارير المتخصصة بعلوم السياسية والحرب التي تحذر ترامب من سياسته هذه التي قد تسبب بهزيمتين سياسية وعسكرية للولايات المتحدة الأمريكية،  نجد عدم رغبته في سماع هذه الحقيقة، ودليل ذلك أنه ما زال مستمراً بالعناد والمكابرة والمقامرة، ولاسيما من خلال تصعيده في مواجهة إيران وباقي محور المقاومة، هذا التصعيد الذي  وضع أمريكا في ورطة حقيقية سببها هو ومن يحيطون به في البيت الأبيض، ولا نبالغ إذا قلنا إنه ومجموعته هذه يدوسون بأقدامهم القوانين والمعاهدات الدولية، كما يديرون ظهورهم احتقاراً للمجتمع الدولي وللرأي العام العالمي بما في ذلك الرأي العام الأمريكي، وكل ذلك يبشر بهزيمة الولايات المتحدة الأمريكية، وبفشلها السياسي والعسكري على مستوى المنطقة و العالم.

إن فكرة ترامب ومن لف لفه في تحقيق السلام والتعايش بين الدول والشعوب من خلال الهيمنة فكرة متخلفة تجاوزتها الأفكار الإنسانية وقوة الشرعية الدولية، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم على أرض الواقع. الأمر الذي يؤكد أن استمرار الصراع بين القوى العالمية لبناء التوازنات والتغيير في طبيعة العلاقات الدولية والتحولات الحاصلة في شكل ومضمون القوة، ليس كما كان في الماضي، لأن عالم اليوم غير عالم الأمس، إنه أشبه بكائن حي يموت بموت الدول والامبراطوريات وانهيارها ويتوالد ببروز  دول وتكتلات أخرى، وبما أن الجوانب الاستراتيجية والتكتيكية للحرب تتبدل دائماً، فإن النظريات والمذاهب المتعلقة بالحرب غالباً ما تتغير أيضاً قبل وأثناء وبعد كل حرب، وهذا ما لا يدركه ترامب وهمشريته في البيت الأبيض ممن يتعايشون مع المألوف، وهم يتنكرون لمنطق العصر، أكان ذلك فيما يخص منطق الحروب، أم كان ذلك فيما يخص منطق الشعوب.

السؤال الذي يطرح نفسه هو هل الحروب هي الصحة الأخلاقية المحركة للتقدم التاريخي، أم أنها هي مصدر الرعب الكوني الذي يجفف منابع الحياة ويعبث بمصير البشر؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من توصيف نوعية هذه  الحروب التي تجري على صعيد العالم، وفي الطليعة هذه الحرب الكونية الإرهابية التي تستهدف سورية وباقي دول المنطقة،  لنجد أنها حروب مدمرة وغير أخلاقية ومصلحية، والدليل على ذلك أن اشتعالها كان متلازماً مع رائحة النفط وخرائط الغاز والطاقة الجديدة، كما نجد أن الاختلاف بين هذه المرحلة وما مضى من مراحل هو التوجه بهذه الحرب نحو سورية وشواطئ البحر الأبيض المتوسط، حيث خطوط الغاز واكتشافاته المذهلة على وقع انهيارات أسواق النفط المتزامنة مع الشهوة الأمريكية الصهيونية غير المسبوقة في دخولها ساحات الصراع، وفي الوقت الذي تتغير فيه خطوط الاشتباكات الدولية من دون أن تحدث ضربات موجعة  للتحالفات الدولية التقليدية، نجد رائحة اكتشاف الغاز تملأ الشرق الأوسط والعالم، إنها خلف الكثير من التحولات الدولية القائمة، والمواقف المستعصية والدليل هذا الاندفاع الامبريالي الصهيوني نحو تجمع القوة والثروة، اندفاع يفسره السلوك الصهيوني الذي كان في الماضي متسماً بالعدوانية والتوسع والاعتماد على المساعدات الغربية، ليصبح اليوم باتجاه الاكتفاء الذاتي في تمويل مخططاته بالاعتماد على ثروات المنطقة، إنه يسعى إلى وضع يده على ثروات المنطقة الممتدة من الخليج العربي إلى  شواطئ البحر الأبيض المتوسط.

بقي أن نقول: إن الخروج العربي من الواقع القائم لا يمكن أن يكون إلا بحسم عسكري يعزل المنطقة من الإرهاب ويعطل استراتيجية التحالف الامبريالي الصهيوني الذي يستهدف تحويل المنطقة إلى محمية أو مستعمرة أمريكية صهيونية تستحوذ من خلالها على احتياطي النفط والغاز، وعلى ممرات وشرايين النقل المؤثرة على اقتصاد العالم، ومع أن المنطق الاستراتيجي الموضوعي بالنسبة للحرب على سورية يقول: إن هذه الحرب قد أخفقت في تحقيق  ما ترمي إليه نتيجة صمود سورية وباقي محور المقاومة، وإنه من الاستحالة بمكان القول: إن هنالك إمكانية لطرح مخططات بديلة تمكن المعتدي من معالجة فشله الذي آل إليه، إلا أن هذا لا يعني أن المعتدي سيبقى بعيداً عن إيجاد طرق لتفريغ هذا الانتصار من محتواه، وهذا ما عبرت عنه الإدارة الأمريكية بكل فجور ووقاحة على لسان مسؤوليها من خلال تبني إطالة أمد الأزمة السورية، بمعنى استمرارية الصراع بالاعتماد على التصعيد الميداني الإقليمي، والتلاعب بالديمغرافي الإنساني، والتشارك الاقتصادي العمراني، وهذا لا يكون إلا بتبني استراتيجية امبريالية صهيونية رجعية جديدة متصلة بالاستقرار النهائي لسورية،  لتفريغ انتصارها من مضمونه.