دراساتصحيفة البعث

الصين الحاضر الأقوى في الملف السوري

علي اليوسف

إن تاريخ العلاقات الصينية– السورية ضارب في التاريخ، حيث شكّلت سورية الطريق التجاري الذي ربط بلاد الصين ببلاد العرب وعُرف قديماً بطريق الحرير. ومنذ نشأة جمهورية الصين الشعبية منتصف القرن الماضي اهتمّت بكين بسورية، واعتبرتها خط الدفاع الأول عن مصالح الصين في آسيا الوسطى والقوقاز.

وعلى مدار السنوات الماضية، تعزّزت هذه العلاقات بخطى هادئة وثابتة، وفي عام 2002 تحديداً التقت أهـداف السياسة الخارجية السورية مع المساعي الصينية الهادفة إلى زيادة نشاطها الاقتصادي في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط بعد طرح الرئيس بشار الأسد في العام نفسه إستراتيجية تسعى لتحويل سورية إلى قاعدة لنقل الغاز، ومنطقة تجارة حرة تصل بين الشرق والغرب عبر ربط البحار الخمسة من خلال سورية.

رأت الصين في إستراتيجية الرئيس الأسد مشروعاً لإحياء طريق الحرير، يمكن أن يساهم في بناء منطقة جديدة للتنمية الاقتصادية في غرب الصين تكون بمرتبة جسر يربط آسيا والمحيط الهادي شرقاً بالمنطقة العربية غرباً، وتشكّل بذلك أطول ممر اقتصادي رئيسي في العالم، ونمطاً جديداً للانفتاح الصيني. وعليه ارتفعت المبادلات التجارية بين الدولتين. وفي عام 2010 بلغ حجم التبادل التجاري نحو 2.48 مليار دولار، إضافة إلى نحو 1.82 مليار كعقود هندسية صينية في سورية، و4.82 ملايين دولار تحويلات عمال صينيين في نحو 30 شركة صينية في سورية، و16.81 مليون دولار على شكل استثمارات صينية مباشرة. واحتلت الصين المرتبة الأولى في عام 2010 في الشركاء التجاريين لسورية بنسبة تصل إلى 6.9% من إجمالي التجارة السورية.

ومع بداية عام 2011 عندما بدأت الهجمة الغربية على سورية، بدأ الموقف الصيني يتبلور بشكل أكبر تجاه منطقة الشرق الأوسط بشكل عام وسورية بشكل خاص، وفقاً لإستراتيجية جديدة تتناسب مع قدرات بكين المتنامية، وانتقل الموقف الصيني تجاه الأزمة السورية إلى الموقف المباشر والمعارض للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط  بعدما استخدمت الصين‏ حق الفيتو للاعتراض على مشروع القرار العربي الأوروبي‏، الذي يتبنى دعوة الجامعة العربية لتنحي الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة. الفيتو الصيني كان تطوراً نوعياً مهماً ليس فقط في أسلوب تعامل الصين مع منطقة الشرق الأوسط، وإنما أيضاً في نظرة بكين إلى دورها الدبلوماسي والسياسي على الساحة العالمية، وهي التي تعدّ من أقل الأعضاء الدائمين استخداماً لحق الفيتو -استعملته 13 مرة خلال 41 عاماً- لتستخدم هذا الحق أربع مرات لإحباط صدور قرارات عن مجلس الأمن رغم أنها كانت تعلم مسبقاً أن روسيا سوف تستخدم حق الفيتو لإجهاض مشروع التدخل الدولي في سورية، لكن بكين قرّرت أن تدلي بدلوها وتعترض علانية.

يؤكد هذا الموقف الصيني على نيّة بكين إبراز نفسها لاعباً جديداً في منطقة الشرق الأوسط، بما يتسق مع مصالحها المتنامية فيها، خاصة فيما يتعلّق بالنفط والغاز الطبيعي، ورغبتها في لعب دور دبلوماسي وسياسي عالمي يتناسب مع تنامي قدراتها الاقتصادية والعسكرية، ووفقاً لما تمليه شروط علاقاتها وتحالفاتها الدولية.

هذا التحوّل الاستراتيجي في شكل التعاطي الصيني مع أكثر الملفات حساسية في العالم مردّه إلى أنها تستند إلى نمو اقتصادي صاعد على مستوى العالم، وهو ما أمّن لها بدائل زادت من قدرتها على مواجهة مختلف الضغوطات وتوسيع قاعدة مناوراتها الدبلوماسية على المستوى الدولي، فشكّلت سورية بهذا المعنى نقطة الارتكاز الأقوى والبوابة شبه الوحيدة لتحقيق تلك الإستراتيجية. وبناءً على تلك القاعدة تشكّل الموقف الصيني تجاه الأزمة السورية ليتصاعد ويأخذ مداه ضمن محور (روسيا، إيران) ومواجهة القطب الأمريكي.

لا شك أن هناك هواجس عدة تتحكّم بالسياسة الصينية تجاه الشرق الأوسط، وسورية بشكل خاص، ويمكن ردّ تلك الهواجس لأسباب تتعلق بالمنافسة مع واشنطن، وخاصة بعد إعلان الولايات المتحدة عن تمركز إستراتيجيتها الخارجية خلال القرن الحادي والعشرين في الاستثمار الدبلوماسي والاقتصادي ضمن منطقة المحيط الهادئ، الأمر الذي يعتبر تهديداً مباشراً للصين في منطقة نفوذها، حيث دعا باراك أوباما عام 2012 الولايات المتحدة الأمريكية لمراجعة منظومتها الدفاعية في آسيا ومنطقة المحيط الهادئ. كما اعتبرت الصين أن المناورات العسكرية الأمريكية المشتركة مع اليابان وكوريا الجنوبية تشكل تهديداً يهدف إلى تطويقها أمنياً، كما لم تخفِ قلقها من بيع الولايات المتحدة أسلحة لتايوان في صفقة قيمتها ستة مليارات دولار. كما ترافق ذلك مع تزايد الضغط الأميركي على الصين لرفع قيمة عملتها والذي لم يجد صدى لدى الحكومة الصينية، نظراً لاعتماد الصين على صادراتها بشكل كبير ما خلق نوعاً من التوتر بين الطرفين في حدود معينة، ولاسيما في ظل اللوائح التي تبناها الكونغرس الأميركي في العام الماضي بهذا الخصوص.

لذلك تراقب الصين التطورات الحاصلة في سورية بعين سياسية وأخرى اقتصادية، وتتأهب لبدء سباق إعادة الإعمار لتأذن لشركاتها العملاقة  للانطلاق في رحلة استثمارات كبيرة لكسب صفقات إعادة الإعمار من بوابة طريق الحرير التي تسعى الصين إلى إعادة إحيائه، وهو الطريق التاريخي القديم للقوافل التجارية، الذي تقع إحدى محطاته في سورية. ولم تفوّت الحكومة السورية فرصة المشاركة في فعالية نظمتها الصين ضمن مشروع أطلقت عليه اسم “الحزام الواحد” في 25 نيسان الماضي لتخرجها من الحصار المفروض عليها دولياً وإقليمياً.

ويجد الاقتصاديون السوريون الاتجاه نحو الشرق مفيداً، حيث يرى الباحث الاقتصادي ليون زكي أن “حتى الدخول في تكتلات أوراسية أمر وارد، ومن بينها منظمة شنغهاي، التي تأسّست في 15 حزيران 2001 لما تمنحه من فسحة أمل للسوريين، عبر توفير تحالفات اقتصادية مميزة، لتنضمّ إلى دول انضمت حديثاً إلى المنظمة مثل أرمينيا وأذربيجان والنيبال وكمبوديا”. وأردف زكي قائلاً إن “نسبة الاستثمارات الدولية لمنظمات مثل شنغهاي وبريكس تزداد، وهما تكسران احتكار القطبية الواحدة في النظام العالمي وتمنحان مشاركة للدول المنضمّة إليها مشاركة فعّالة في المصارف وتمويل المشاريع”.

ولهذا تنتظر الصين التي تعدّ من أبرز دول البريكس، إلى جانب روسيا الاتحادية الداعمة لسورية منذ العام 2011، “ساعة الصفر” لإعادة إعمار البلاد التي دمّرتها الحرب، ووفق المعلومات المتوافرة فإن المشاريع والصفقات التجارية التي يتأهب “التنين الصيني” لدخول مجالاتها، تتعلق بقطاعات النقل، ولاسيما مع دخول شركات عقارية ضخمة قادرة على بناء مجمعات سكنية عملاقة لتقدم المساعدة إلى سورية التي تُقدّر تكلفة إعادة الإعمار فيها بـ 400 مليار دولار.

وليس عبثاً أن تبدأ العربة الصينية تقدّمها من طريق قطاع النقل، بالتزامن مع نداءات بإعادة تفعيل “طريق الحرير”، حيث ستكون الاستثمارات الصينية حاضرة بقوة في مشاريع المواصلات من خلال مدّ سكك الحديد وإنشاء مدينة صناعية بحرية ضخمة، وتنفيذ طرق سيارات دولية.. وغيرها من المشاريع، وهذا ما يفسّر اللقاءات بين مسؤولين سوريين وصينيين في الفترة الأخيرة، وأبرزها لقاء السفير الصيني في دمشق فنخ بياو، مع وزير النقل علي حمود، وأخيراً زيارة وزير الخارجية وليد المعلم إلى الصين.

سيشكّل دخول بكين إلى سورية التي تعدّ حلقة ربط بين قارات ثلاث، منازعاً قوياً للولايات المتحدة التي تشاهد الاستثمارات الصينية تتنامى في الشرق الأوسط وتتمدّد بشكل مخيف بالنسبة إلى اقتصادها وسياساتها في المنطقة، ما يعني أنها لن تكتفي بالتفرج على النمو المتزايد لهذا العملاق.