تحقيقاتصحيفة البعث

الصناعة الدوائية السورية.. فعالية تؤكدها المقاييس العلمية.. وقوة اقتصادية وطنية منافسة عربياً وعالمياً  د. فضلون: السوق الدوائية تخسر ما يعادل 300 مليون دولار قيمة أدوية ترد تهريباً لسورية بأسعار باهظة ومصادر مشكوك بها

لم تختلف مواقفه الصارمة والداعمة للصناعة الوطنية، وخاصة الأدوية، ولم تتبدل رؤيته حول أضرار التهريب، أو ملاحظاته المتعلقة بممارسات بعض الأطباء والصيادلة، ودورهم في الترويج والتسويق للمنتجات المهربة والمستوردة من الأدوية على حساب المنتج الوطني، وبعد سنوات من لقائنا الأول مع د. زهير فضلون الأمين العام للمجلس العلمي للصناعات الدوائية، وجدنا أن الزمن يعيدنا إلى نقطة البداية، فالتحديات والمشكلات التي كانت محور حديثنا معه آنذاك مازالت على حالها اليوم مع بعض الرتوش والتعديلات الطفيفة، سواء تلك التي فرضتها الحرب وتداعياتها الاقتصادية، وغيرها، أو تلك المتعلقة بالوعي والفهم المجتمعي لحقيقة المنافسة بين الأدوية الوطنية وغيرها في سوق الأدوية التي تشهد حملات تشهير بجودة الدواء المحلي، والإساءة لهذه الصناعة، واتهامها بغياب الفاعلية لصالح المنافس القادم من خلف البحار وعبر الحدود بطرق شرعية أو غير شرعية، وذلك ضمن لعبة تجارية واضحة الأهداف والنتائج.

كل ما يتعلق بالصناعات الدوائية الوطنية كان محل اهتمام د. فضلون الذي حاول الإحاطة والإمساك بكل الإشارات الاستفهامية المثارة في سوق الدواء الوطني، والإجابة عنها، وتوضيح كافة القضايا المبهمة التي يتم تداولها بصورة خاطئة، سواء في الأوساط الشعبية، أو الرسمية والاختصاصية الطبية.

وطنية بامتياز

د. فضلون أراد تبادل الأفكار والآراء بعيداً عن صيغة السؤال والجواب لتكون أكثر شمولية وعائدية من حيث المعلومات والأفكار التي عبّرت وبيّنت موقف الأمين العام للمجلس العلمي للصناعات الدوائية بكل وضوح، وكانت البداية من التأكيد على أن أكثر ما يميز الصناعة الدوائية السورية، الوطنية بامتياز، دورها المشرف خلال الحرب الظالمة على سورية، فقد حافظت على أسعار ما قبل الأزمة لمدة أربع سنوات، رغم تغير سعر الصرف للقطع الأجنبي بنسبة تجاوزت في تلك الفترة 400%، وكان ذلك كله بمبادرة ذاتية من معامل الدواء التي أصرت على استمرار الإنتاج رغم الظروف القاسية بالنقل، وتدمير خطوطها، وسرقة آلاتها وموادها الأولية، وكان العاملون في هذه الصناعة يشعرون بأنهم بالخطوط الأولى في المعركة، وقال: أعداؤنا يحاربوننا بغذائنا ودوائنا بالدرجة الأولى، وقد لاحظ المواطن العربي السوري أن سورية خلال الأزمة لم تعان من أزمة دواء حقيقية، وربما كان هناك فقدان لبعض الأسماء التجارية، ولكن دائماً كانت هناك بدائل بالتركيب نفسه، ولكن بأسماء تجارية أخرى، فسياسة الدواء في سورية اعتمدت منذ بداية التسعينيات وجود من 7-10 بدائل دوائية بالتركيب نفسه لتأمين حاجة السوق المحلية.

وعندما قاطعنا حديث د. فضلون للاستفسار عن حقيقة المشكلة في الصناعات الدوائية أكد على أهمية الإقرار أولاً بأن الصناعة الدوائية قوة اقتصادية موجودة في البلد، وقطاع مهم أساسي في تحقيق السياسة الصحية، والدواء كأية سلعة يعتمد تصريفها على المنتج والمستهلك، والمستهلك هنا هو المريض والطبيب والصيدلي، وبالتالي فتصريفها يعتمد على قناعة الزبون بالسلعة أولاً، وفي الوقت نفسه السلعة الدوائية تختلف عن أية سلعة أخرى، لأنه يفترض أولاً أن تمتلك المواصفات والمقاييس المقررة التي لا تنازل عنها، وهذه المواصفات ليست محددة محلياً، أو وطنياً، وإنما تحددها مواثيق عالمية موحدة ومعتمدة تسمى دساتير الأدوية التي تحدد المواصفات المطلوبة لكل دواء ولكل مادة أولية تدخل في تركيبه، وسورية ليست استثناء، لذلك فوزارة الصحة، والجهات الرقابية، ومعامل الأدوية كلها تعتمد الدساتير العالمية للأدوية.

فعالية الدواء السوري

ورفض د. فضلون أي حديث يشكك بفاعلية وجودة الدواء الوطني، مؤكداً على أن صناعة الدواء السورية أثبتت منذ بدايتها وجودها على خارطة العلاج في سورية، وبدأت بالتصدير للخارج، وأصبحت صناعة منافسة بقوة للكثير من الصناعات الدوائية العربية التي سبقتها بسنوات عديدة، والإعلام المضاد لها يحاول كل جهده الإساءة إلى فعالية منتجاتها ومحاربتها اقتصادياً، وتمثّل ذلك بمحاربة الشركات الأجنبية ووكلائها للمنتجات المحلية، لأن المنتج المحلي سيعني إيقاف استيراد الأدوية من الخارج، ومنافسة المنتجات السورية لها في الأسواق الخارجية، والحالة تنطبق على مستوردي الأدوية بصورة عامة، وللأسباب السابقة نفسها، حيث إن الاستثمار في استيراد الدواء ذو عائدية أكبر للمستثمر، وطريقة تسعيره لا تخضع لقواعد وزارة الصحة، فهي واقعية، وحسب فاتورة الشراء، وسعر الصرف الآني، وكذلك يمتلك الاستيراد دورة رأس مال سريعة، ولكن في الوقت نفسه لا يؤمن تشغيل عمالة، ولا يوطن تكنولوجيا، ولا يساهم فعلياً في تحقيق الأمن الدوائي، ويسبب خسارة للبلد باستهلاكه القطع الأجنبي الذي يمكن أن يخصص لمشاريع التنمية، ولم يغفل أيضاً الإشارة إلى الأسباب السياسية المتعلقة بمحاربة أية نهضة صناعية وطنية كجزء من الحرب الاقتصادية، وكذلك أسباب تتعلق بالأمن الدوائي، لأن توفر منتج دوائي محلي يعني تحييد أية ضغوط سياسية تستخدم توريد الدواء كسلاح لهذه الضغوط، وبالتالي محاولة إضعاف الموقف الوطني السوري.

وانتقل د. فضلون بعد ذلك ليوضح أن البعض ولأسباب شخصية اتفقت مواقفهم مع مواقف الآخرين في محاربة الدواء الوطني، وخاصة أولئك الذين لا يستطيعون معالجة أنفسهم، والتحرر من عقدة “الفرنجي برنجي”، ويفضلون ويحرضون على استخدام الدواء الأجنبي دون الاستناد إلى أي دليل علمي مثبت بالوقائع والبراهين، ويأتي ضمن هذه الزمرة بعض الأطباء والصيادلة الذين يحاربون الدواء الوطني، ولكل أسبابه، فالطبيب يرى أنه بوصفه دواء أجنبياً يصبح تصنيفه خمس نجوم، والصيدلي ينصح به المريض على أساس أن الدواء الوطني غير فعال بسبب نسبة الربح غير المحددة والعالية للدواء الأجنبي، وبصورة عامة يكون هذا الدواء مهرباً!.

مقاييس علمية

المعايير التي تحدد الفعالية الدوائية كانت المحور الثاني في حديثنا مع د. فضلون الذي اعترض على كل ما يتم تناوله وتداوله بعيداً عن العلم، ليؤكد على أن أي إقرار لفعالية الدواء من عدمها أو حتى انخفاض الفعالية يتطلب مقاييس علمية معتمدة، ولا يمكن للمريض أو الصيدلي في صيدليته، أو الطبيب في عيادته أن يقرر إن كان الدواء فعالاً أم لا إلا بالاستناد إلى قرائن علمية تعتمد أساساً على القواعد المتبعة عالمياً لإجراء الدراسات السريرية، ويكون الإحصاء أساساً لها بعد ضبط شروط المقارنة، وعينات المرضى الذين تتم متابعتهم، وباعتبار أن الأدوية المصنعة في سورية أدوية جنيسة، وليست “براند” (أصيلة)، فإن طرق مراقبة الأدوية الجنيسة تستند إلى معايير قياس مخبرية هي: (دراسة كمية المادة الفعالة في المستحضر، دراسة الانحلال والتفكك، دراسة الصفات الفيزيائية، دراسات الثبات، إضافة إلى دراسة مطابقة المواد الأولية للمواصفات المعتمدة دستورياً)، وأضاف: هذه الدراسات تجري على الأدوية السورية كافة بمستويين: المعمل المنتج، ومخابر وزارة الصحة المركزية قبل السماح بتسويق المستحضر، ووزارة الصحة لا تسمح بالتسويق إلا بعد تحليل ورقابة تحضير المستحضر، وكل تحضيره من الأدوية الحقنية والعينية والهرمونية والقلبية والنفسية، ويتبع ذلك برقابة عشوائية تجري للمستحضر خلال فترة تواجده على الرف بالمستودعات والصيدليات طوال فترة صلاحيته المقررة، كما تتبع وزارة الصحة نظام متابعة للصنف، بحيث يتم تقصي أية شكوى عن أي مستحضر، وتتابع مع المعمل المنتج لتلافي أي خلل في حال حدوثه، ولفت أيضاً إلى محددات فعالية الدواء كنوعية المادة الأولية، والتشكيل المتوافر، والتكافؤ الحيوي، وحالة المريض، والتشخيص الدقيق، وترشيد استهلاك الدواء، والتداخل الدوائي، ومدى التزام المريض. وأكد فيما يتعلق بالمادة الأولية أنه لا يتم استيراد أية مادة إلا إذا كانت مطابقة للشروط الدستورية، ولدى إنجاز التشكيل الدوائي يدرس ثبات الشكل الصيدلاني، ولا يتم تحرير تحضيراته الأولى إلا بعد رقابته مركزياً في وزارة الصحة، وتتم متابعته طوال فترة الصلاحية على الرف في الصيدليات، وهذا لا يعني أنه لا يتم اكتشاف حالات تستوجب سحب الدواء من السوق لتغير مواصفاته، أو لضعف في ثباته، والسحب من السوق لبعض الأصناف هو ظاهرة قوة للصناعة، وليس ظاهرة ضعف، وهذا يعني المتابعة والرقابة من المعمل المنتج، ومن الوزارة.

فقدان الأدوية المرخصة

وأشار د. فضلون إلى أنه في عامي 2015-  2016 مرت فترة فقدت فيها بعض الأدوية من السوق المحلية نتيجة تغير سعر الصرف بنسبة تجاوزت 400% دون تعديل سعرها، ما أدى إلى خسارتها، وعدم إمكانية استمرار إنتاجها، ولدى صدور قرارات مجلس الوزراء بتسوية الأسعار، أعيد إنتاج هذه الأدوية، وأصبحت متوفرة في السوق المحلية، ما استوجب نقص قائمة الاستيراد بما يتناسب مع ذلك، بالرغم من أنه مازال هناك حوالي 35% من الأدوية لم تتم تسوية أسعارها، وهي معرّضة للتوقف إذا لم تتم تسوية أسعارها وفق القرارات الصادرة عن رئاسة مجلس الوزراء في شباط 2017، ولكن حالياً، وحسب الإحصائيات الرسمية لا يتعدى فقدان الأدوية المصنعة محلياً ببعض الأسماء التجارية نسبة 1%، مع وجود بدائل بالتركيب نفسه، مع أخذ العلم بأن الدولار التسعيري في وزارة الصحة هو 477 فقط، أي يقل بنسبة 30% عن سعر الدولار الفعلي، وهذا يعني خسارة المعمل 30% من سعر مادته الأولية قبل الإنتاج، وهذا معادل تماماً للنسب المقررة قانوناً لربح المعمل، وتوزيع المنتج والدعاية له: (14% ربح المعمل، و8% توزيع، و8% دعاية).

تهريب الأدوية

وفيما يخص قضايا تهريب الأدوية بيّن أن لبنان يعتبر المصدر الرئيسي لتهريب الأدوية إلى سورية، وتبلغ قيمة مستوردات لبنان من الأدوية مليار دولار سنوياً، وباعتراف الجهات المسؤولة عن الاستيراد في لبنان فإن نسبة 30% مخصصة لسورية، وترد تهريباً، هذا يعني أن سوقنا الدوائية تخسر ما يعادل 300 مليون دولار قيمة أدوية ترد تهريباً لسورية بأسعار باهظة، ومصادر مشكوك بها، وتستخدم أساساً لمحاربة إنتاجنا المحلي، وتندرج قائمة المستفيدين من هذه الحصة من التهريب من الموردين في لبنان إلى المهربين والموزعين الكبار والصغار في سورية.

الاستثمار في الجودة

ولدى د. فضلون وجهة نظر في موضوع الاستثمار، إذ إنه لا يعتبر الدواء سلعة كبقية السلع، ولا يجب أن يعامل كأية سلعة تجارية أخرى، فهو سلعة يجب توفرها عند الحاجة بالجودة المطلوبة، ولا يمكن التنازل عن مواصفاتها، فهي ليست سلعة كمالية، وإنما الأداة الأهم بعلاج الأمراض، ولذلك نجد أن أدوات ووسائط الإنتاج والرقابة يجب أن تتصف بميزات محددة عالمياً، والاستثمار في ذلك يعتبر استثماراً في جودة الدواء، ولا يمكن أن نجبر المعمل ولأسباب دعائية أو سياسية على خفض الاستثمار في الجودة، ومن المعروف أن سعر الدواء السوري كان ولايزال من أرخص الأدوية في المنطقة، ولكن السعر الرخيص جداً غير المبرر هو ظاهرة سلبية وليست إيجابية في صناعة الدواء، ففي معظم الحالات يجبر المعامل على البحث عن طرق لخفض التكلفة، والدواء الرخيص يكون غير مقنع للمريض والطبيب بأنه مماثل لمثيله الأجنبي، لأن فرق السعر لا يمكن قبوله بأنهما متماثلان بالفعالية، ويضطر المعمل للبحث عن مصادر أرخص للمواد الأولية، ومستلزمات الإنتاج، كل ذلك في النهاية يؤدي إلى إحباط عمليات البحث والتطوير الملزمة للصناعة الدوائية.

وتابع: بالمقارنة بين معامل الأدوية السورية نجد أنها جميعاً تحقق المتطلبات المقررة من وزارة الصحة، ولكن العديد منها تجاوز هذه المتطلبات ليصبح متوافقاً مع الشروط المطلوبة عالمياً، وخاصة للأصناف الحديثة، ولتلبية طلبات التصدير، وفي هذا السياق تأتي فلسفة السعر الموحد للمنتج وآثاره السلبية على تميز الدواء، صحيح أن جميع الأدوية تحقق المواصفات المطلوبة، وهي المحددة في دستور الأدوية، لكن الاستثمار في الجودة والبناء والعناصر البشرية يعطي أفضلية تميز بعضها عن الأخرى، ولابد من لحظ ذلك لدى حساب التكلفة والتسعير، وقد تضمنت قواعد التسعير المعتمدة من رئاسة مجلس الوزراء بأن يسعر الدواء المنتج بتكنولوجيا متميزة بسعر التكلفة الفعلي، على ألا يتجاوز السعر النهائي 50% من سعر الدواء الأصيل Brand. بالمقابل نرى أنه لابد من التدقيق المستمر بمستوى تطبيق شروط التصنيع الجيد للدواء، ومعايير الجودة، وتطبيق أقصى الإجراءات بحق المخالفين، لأن أية إساءة من أي منتج هي إساءة للصناعة ككل.

المخاطر الصحية

وأكد د. فضلون أن المنتجات الدوائية والصحية المتواجدة في السوق بشكل غير نظامي وغير شرعي مجهولة المصدر، وبالتالي لا يمكن ضمان الجودة، ومتابعة المحاسبة والرقابة، فإما أن تكون هذه المنتجات دون المواصفات، أو مخالفة للشروط الصحية من حيث طريقة التصنيع، أو شروط النقل والخزن والتوزيع، أو تحوي مواد ضارة أو سامة، أو لا تحوي مواد فعالة.

ولفت إلى أن لغياب التواصل الواعي أو ضعفه بين المنتج السوري والزبون (المريض أو الطبيب أو الصيدلي)، وعدم وعي المستهلك السوري للمواصفات العالية التي تتمتع بها المنتجات المحلية، ومنافستها الحقيقية للمنتجات الأجنبية، دوراً في انتشار المنتجات الدوائية غير النظامية، ولذلك لابد من حملة توعية متكاملة تشارك بها النقابات الطبية، ووزارة الصحة، وتكون معامل الأدوية المحرك لها على مستوى الوطن، تبيّن واقع هذه الصناعة، ودورها، وأهميتها الصحية والاقتصادية، ويجب أن يعي المستهلك المحلي أن دعم الصناعة المحلية واجب وطني، وله عائد اقتصادي إيجابي مفيد له ولعائلته، فصناعة كهذه وقفت وصمدت وقاتلت مع أهلها وشعبها خلال الحرب الظالمة على سورية تستحق منا جميعاً أن نقف معها ونحميها ونساهم في تطويرها بقطاعيها العام والخاص، فلكل دوره ومساهمته التي لا غنى عنها في السياسة الدوائية السورية.

بشير فرزان